الثاني : أن الصغائر مورد لعفو الله سبحانه وقد وعد العفو عنها على تقدير التجنب عن الكبائر وقال عزّ من قائل ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ... ) (١) ومع الوعد بالعفو عن الصغيرة على التقدير المذكور كان ترك الكبائر كالتوبة مانعاً عن العقاب ، فلا يمكن أن يكون ارتكابها موجباً للفسق ومنافياً للعدالة وذلك لأن التوبة وهي رافعة للمعصية وعقابها فإن التائب من ذنب كمن لا ذنب له لا تجتمع مع الفسق أي لا تضر معها المعصية ، بالعدالة فما ظنك بالاجتناب عن الكبائر الّذي دافع للمعصية والعقاب ، لأنه يوجب العفو من الابتداء فهو لا يجتمع مع الفسق ، ولا تضر معه المعصية بالعدالة بطريق أولى ، فإن ارتفاع الفسق بالدفع أولى من ارتفاعه بالرفع ، والعدالة تزول بالكبيرة وتعود بالتوبة ، ولكنها لا تزول بالصغيرة من الابتداء.
وفيه : أوّلاً : منع التلازم بين العفو عن المعصية وعدم الفسق ، فإن الفسق كما اتضح في تفسير العدالة هو الخروج عن وظيفة العبودية والانحراف عن الجادة ، والعفو عنه أمر آخر غير مانع عن كونه فسقاً وانحرافاً ، فإن لله سبحانه أن يعفو عن أعظم المعاصي تفضلاً أو لشفاعة نبي أو وصي أو مؤمن أو لصدقة تصدّق بها أو إحسان صنعة أو لغير ذلك من أسباب العفو والغفران ، إلاّ أن العفو عن أي معصية لا يمنع عن حصول الفسق بارتكابها. ويتضح ما ذكرناه بملاحظة الموالي العرفية وعبيدهم ، أفلا يعدّون مخالفة العبد وعصيانه لسيده عصياناً وتمرداً إذا كان السيد ممن لا يعاقب عبده بوجه؟ فإن العفو شيء والفسق والانحراف بارتكاب الصغيرة شيء آخر ، فلا تلازم بين العفو وعدم الفسق أبداً.
وثانياً : هب أن العفو مانع عن الفسق ، إلاّ أنه لا سبيل لنا إلى إحراز ذلك في من يرتكب الصغائر ، فإن العفو عنها قد علق في الكتاب العزيز على اجتناب الكبائر ومن أين لنا إحراز أن مرتكب الصغيرة لا يرتكب الكبائر طيلة حياته. وذلك فإن المراد بقوله عزّ من قائل ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ... ) ليس هو الاجتناب عنها آناً ما ، لأنه أمر حاصل لكل شخص حتى لأفسق الفسقة بل المراد به الاجتناب عنها أبداً. نعم ، لا
__________________
(١) النساء ٤ : ٣١.