بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم وزالت الجهالة ، وبانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمد ونحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شيء من القوى والعواطف والأميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث الذات ورداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى والأميال سريعا أو بطيئا بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله.
نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحق فيتواضع للحق ويدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة ، وفي الحقيقة كل معصية جهالة من الإنسان ، وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية.
ومن هنا يظهر معنى قوله تعالى : ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) أي إن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفا على طريقته ملازما لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب وهو قبل ظهور آيات الآخرة وقدوم الموت.
وكل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله ووبال فعله ألزمته نفسه على الندامة والتبري من فعله لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية فطرته بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل ، والدليل عليه أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه من سيئات الأعمال قال تعالى : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) : « الأنعام : ٢٨ ».
والدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ ) إلى قوله : ( قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ).
وعلى هذا يكون قوله : ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة.
ويتبين مما مر أن القيدين جميعا أعني قوله : ( بِجَهالَةٍ ) ، وقوله : ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) احترازيان يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله ، وبالثاني منهما