وكيف كان فما ذكره الغزالي وإن كان وجيها في الجملة لكنه لا يخلو عن خلل من جهات.
الأولى : أن ما ذكره من انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب تحابط الثواب والعقاب لا ينطبق دائما على ما ذكره من الانقسام بحسب نفس المعاصي ومتون الذنوب في أول كلامه فإن غالب المعاصي الكبيرة المسلمة في نفسها يمكن أن يصادف في فاعله ثوابا كبيرا يغلب عليها وكذا يمكن أن تفرض معصية صغيرة تصادف من الثواب الباقي في النفس ما هو أصغر منها وأنقص ، وبذلك يختلف الصغيرة والكبيرة بحسب التقسيمين فمن المعاصي ما هي صغيرة على التقسيم الأول كبيرة بحسب التقسيم الثاني ، ومنها ما هي بالعكس فلا تطابق كليا بين التقسيمين.
والثانية : أن التصادم بين آثار المعاصي والطاعات وإن كان ثابتا في الجملة لكنه مما لم يثبت كليا من طريق الظواهر الدينية من الكتاب والسنة أبدا. وأي دليل من طريق الكتاب والسنة يدل على تحقق التزايل والتحابط بنحو الكلية بين عقاب المعاصي وثواب الطاعات؟.
والذي أجرى تفصيل البحث فيه من الحالات الشريفة النورية النفسانية والحالات الأخرى الخسيسة الظلمانية كذلك أيضا ، فإنها وإن كانت تتصادم بحسب الغالب وتتزايل وتتفانى لكن ذلك ليس على وجه كلي دائمي بل ربما يثبت كل من الفضيلة والرذيلة في مقامها وتتصالح على البقاء ، وتقتسم النفس كأن شيئا منها للفضيلة خاصة ، وشيئا منها للرذيلة خاصة ، فترى الرجل المسلم مثلا يأكل الربا ولا يلوي عن ابتلاع أموال الناس ، ولا يصغي إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم ، ويجتهد في الصلوات المفروضة ، ويبالغ في خضوعه وخشوعه ، أو أنه لا يبالي في إهراق الدماء وهتك الأعراض والإفساد في الأرض ويخلص لله أي إخلاص في أمور من الطاعات والقربات ، وهذا هو الذي يسميه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصية بعد تعددها وتنازعها ، وهو أن تتنازع الميول المختلفة النفسانية وتثور بعضها على بعض بالتزاحم والتعارض ، ولا يزال الإنسان في تعب داخلي من ذلك حتى تستقر الملكتان فتزدوجان وتتصالحان ويغيب كل عند ظهور الأخرى وانتهاضها وإمساكها على فريستها كما عرفت من المثال المذكور آنفا.