وكانت عرب المدينة تحترمهم ، وتعظم أمرهم من قديم عهدهم فكانوا يلقون إليهم من باطل القول ومضلات الأحاديث ما يبطل به صادق إرادتهم ، وينتقض به مبرم جدهم ، ومن جانب آخر كانوا يشجعون المشركين عليهم ، ويطيبون نفوسهم في مقاومتهم ، والبقاء والثبات على كفرهم وجحودهم ، وتفتين من عندهم من المؤمنين.
فالآيات السابقة كالمسوقة لإبطال كيد اليهود للمسلمين ، وإمحاء آثار إلقاءاتهم على المؤمنين ، وما في هذه الآيات من حديث المنافقين هو كتتميم إرشاد المؤمنين ، وتكميل تعريفهم حاضر الحال ليكونوا على بصيرة من أمرهم ، وعلى حذر من الداء المستكن الذي دب في داخلهم ، ونفذ في جمعهم ، وليبطل بذلك كيد أعدائهم الخارجين المحيطين بهم ، ويرتد أنفاسهم إلى صدورهم ، وليتم نور الدين في سطوعه ، والله متم نوره ولو كره المشركون والكافرون.
قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً » الحذر بالكسر فالسكون ما يحذر به وهو آلة الحذر كالسلاح ، وربما قيل : إنه مصدر كالحذر بفتحتين ، والنفر هو السير إلى جهة مقصودة ، وأصله الفزع ، فالنفر من محل السير فزع عنه وإلى محل السير فزع إليه ، والثبات جمع ثبة ، وهي الجماعة على تفرقة ، فالثبات الجماعة بعد الجماعة بحيث تتفصل ثانية عن أولى ، وثالثة عن ثانية ، ويؤيد ذلك مقابلة قوله : « فَانْفِرُوا ثُباتٍ » قوله : « أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ».
والتفريع في قوله : ( فَانْفِرُوا ثُباتٍ ) ، على قوله : ( خُذُوا حِذْرَكُمْ ) ، بظاهره يؤيد كون المراد بالحذر ما به الحذر على أن يكون كناية عن التهيؤ التام للخروج إلى الجهاد ويكون المعنى : خذوا أسلحتكم أي أعدوا للخروج واخرجوا إلى عدوكم فرقة فرقة ( سرايا ) أو اخرجوا إليهم جميعا ( عسكرا ).
ومن المعلوم أن التهيؤ والإعداد يختلف باختلاف عدة العدو وقوته فالترديد في قوله : أو انفروا ، ليس تخييرا في كيفية الخروج وإنما الترديد بحسب تردد العدو من حيث العدة والقوة أي إذا كان عددهم قليلا فثبة ، وإن كان كثيرا فجميعا.
فيئول المعنى ـ وخاصة بملاحظة الآية التالية : ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ ) ، ـ إلى نهيهم عن أن يضعوا أسلحتهم ، وينسلخوا عن الجد وبذل الجهد في أمر الجهاد فيموت عزمهم ويفتقد نشاطهم في إقامة أعلام الحق ، ويتكاسلوا أو يتبطئوا أو يتثبطوا في قتال أعداء الله ، وتطهير الأرض من قذارتهم.