(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي فاجعل وجهك بحيث يلى جهة المسجد الحرام ، وفي ذكر (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدا عنها بحيث لا يراها ، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه.
(وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي وفي أىّ مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم فى الصلاة ، وهذا يقتضى أن يصلّوا في بقاع الأرض المختلفة إلى سائر الجهات ، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق ، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب.
وقد وجب لهذا أن يعرف المسلمون موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا ، ومن ثمّ عنوا عناية عظيمة بعلم تقويم البلدان بقسميه الفلكي والأرضى (الجغرافية الفلكية والأرضية).
والأوامر التي جاءت في الكتاب الكريم موجهة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هى له ولأمته ، إلا إذا دلّ دليل على أنها خاصة به كقوله : «خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» وقوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ».
وإنما أكد الأمر باستقباله ، ووجّهه إلى المؤمنين بعد أن أمر به نبيه ، وشرفهم بالخطاب بعد خطاب رسوله ، لتشتدّ عزيمتهم وتطمئنّ قلوبهم ، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب واليهود بعزيمة صادقة وثبات على اتباع الرسول ، ثم عاد إلى بيان حال السفهاء مثيرى الفتنة في تحويل القبلة فقال :
(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وإن أهل الكتاب يعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام ، هو الحق المنزل من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهم مع هذا يفتنون ضعاف المؤمنين في دينهم ويتقبلون ذلك منهم ، إذ يذكرون للناس أقوالا على أنها من كتبهم ، وما هى من كتبهم ، ولكن يريدون بذلك الخداع والفتنة والتهويش على الذين في قلوبهم مرض ، بإثارة الشكوك فى نفوسهم ، ومن ثمّ كذب الله هؤلاء المخادعين ، وبيّن أنهم يقولون ما لا يعتقدون ،