استعمل زياد بن لبيد على حضرموت وقال له : «سر مع هؤلاء القوم ـ يعني وفد كندة ـ فقد استعملتك عليهم» [٢٣٢٢] ، فسار زياد معهم عاملا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم على حضرموت على صدقاتها : الثمار والخفّ والماشية والكراع والعشور ، وكتب له كتابا ، فكان لا يعدوه إلى غيره ولا يقبض دونه ، فلمّا قبض النبي صلىاللهعليهوسلم واستخلف أبو بكر كتب إلى زياد يقرّه على عمله ، ويأمره أن يبايع من قبله ، ومن أبى وطئه بالسيف ويستعين بمن أقبل على من أدبر (١).
وبعث بكتابه إليه مع أبي هند البياضي ، فلما أصبح زياد غدا بنعي رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الناس ، وأخذهم بالبيعة لأبي بكر وبالصّدقة ، فامتنع قوم من أن يعطوا الصّدقة ، وقال الأشعث بن قيس : إذا اجتمع الناس فما أنا إلّا كأحدهم ، ونكص عن التقدم إلى البيعة ، فقال له امرئ القيس بن عابس الكندي : أنشدك الله يا أشعث ، ووفادتك على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإسلامك أن تنقضه اليوم ، والله ليقومنّ بهذا الأمر من بعده من يقتل من خالفه ، فإياك إياك وابق على بنفسك ، فإنك إن تقدّمت تقدم الناس معك ، وإن تأخّرت افترقوا ، فأبى الأشعث وقال : قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد ، ونحن أقصى العرب دارا من أبي بكر ، أيبعث أبو بكر إلينا الجيوش؟ فقال امرؤ القيس : أي والله ، وأخرى : لا يدعك عامل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ترجع إلى الكفر ، فقال الأشعث : من؟ قال : زياد بن لبيد. فيتضاحك الأشعث وقال : أمّا يرضى زياد أن أجيره؟ فقال امرؤ القيس : سترى.
ثم قام الأشعث فخرج من المسجد إلى منزله ، وقد أظهر ما أظهر من الكلام القبيح من غير أن ينطق بالرّدّة ، ووقف يتربص وقال : نقف أموالنا بأيدينا ولا ندفعها ، ونكون من آخر الناس.
قال : وبايع زياد لأبي بكر بعد الظهر إلى أن قامت صلاة العصر ، فصلّى بالناس العصر ثم انصرف إلى بيته ، ثم غدا على الصّدقة من الغد كما كان يفعل قبل ذلك ، وهو أقوى ما كان نفسا وأشدّه لسانا ، فمنعه حارثة بن سراقة بن معدي كرب العبدي أن يصدّق غلاما منهم ، وقام يحلّ عقال البكرة التي أخذت في الصّدقة ، وجعل يقول :
يمنعها شيخ بخدّيه الشّيب |
|
ملمّع كما يلمّع الثوب |
ماض على الرّيب إذا كان الرّيب
__________________
(١) انظر نص كتاب أبي بكر إلى زياد بن لبيد في غزوات ابن حبيش ١ / ١٣١.