ومن تأثير «إنّ» في الجملة ، أنها تغني إذا كانت فيها من الخبر ، في بعض الكلام. ووضع صاحب الكتاب في ذلك بابا فقال : «هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة ، لإضمارك ما يكون مستقرّا لها وموضعا لو أظهرته. وليس هذا المضمر بنفس المظهر ، وذلك : «إنّ مالا» و «إنّ ولدا» ، و «إنّ عددا» ، أي : «إنّ لهم مالا» فالذي أضمرت هو «لهم» ويقول الرجل للرجل : «هل لكم أحد؟ إنّ الناس ألب عليكم؟» ، فتقول : «إنّ زيدا وإنّ عمرا» أي : «لنا» ، وقال الأعشى : [من المنسرح]
إنّ محلّا وإنّ مرتحلا |
|
وإنّ في السّفر إذ مضوا مهلا (١) |
ويقول : «إنّ غيرها إبلا وشاء» كأنه قال : «إنّ لنا ، أو : عندنا ، غيرها» ، قال : وانتصب «الإبل» و «الشّاء» كانتصاب «الفارس» إذا قلت : «ما في الناس مثله فارسا» ، وقال : ومثل ذلك قوله : [من الرجز]
يا ليت أيّام الصّبا رواجعا (٢)
قال : فهذا كقولهم : «ألا ماء باردا» ، كأنه قال : «ألا ماء لنا باردا» وكأنّه قال : «يا ليت أيّام الصبا أقبلت رواجع».
فقد أراك في هذا كلّه أنّ الخبر محذوف ، وقد ترى حسن الكلام وصحّته مع حذفه وترك النّطق به. ثم إنك إن عمدت إلى «إنّ» فأسقطتها ، وجدت الذي كان حسن من حذف الخبر ، لا يحسن أو لا يسوغ. فلو قلت : «مال» ، و «عدد» و «محلّ» و «مرتحل»
__________________
(١) البيت للأعشى في ديوانه (١٧٠) ، والأعشى : هو ميمون بن قيس يمدح سلامة ذا قائش ، والبيت في الإيضاح (٨٩) ، والإشارات والتنبيهات (٦٣) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ١٠٣) ، وخزانة الأدب (١٠ / ٤٥٢ ، ٤٥٩) ، والخصائص (٢ / ٣٧٣) ، والشعر والشعراء (٧٥) ، وأمالي ابن الحاجب (١ / ٣٤٥).
(٢) الشعر للعجاج في ملحقات ديوانه (٤٠٥) ط ، دار صادر ، والعجاج هو : عبد الله بن رؤبة بن لبيد ابن صخر بن كثيف بن ربيعة بن سعد بن مالك بن تميم ، وكنيته أبو الشعثاء ، والشعثاء ابنته وكبرى أولاده ، ولقب بالعجاج لقوله :
حتى يعجّ عنده من عجعجا
والبيت في لسان العرب (ليت) بلا نسبة. والمعنى : إنما أراد : يا ليت أيام الصبا لنا رواجع ، نصبه على الحال ، وحكى النحويون أن بعض العرب يستعملها بمنزلة وجدت فيعديها إلى مفعولين ، ويجريها مجرى الأفعال ، فيقول : ليت زيدا شاخصا فيكون البيت على هذه اللغة. لسان العرب (ليت).