وجعل كأنه يقدم الرجل ويؤخّرها على الحقيقة ، كما كان الأصل في قولك : «رأيت أسدا» ، رأيت رجلا كالأسد ، ثم جعل كأنّه الأسد على الحقيقة.
وكذلك تقول للرجل يعمل في غير معمل : «أراك تنفخ في غير فحم ، وتخطّ على الماء» ، فتجعله في ظاهر الأمر كأنّه ينفخ ويخط ، والمعنى على أنك في فعلك كمن يفعل ذلك. وتقول للرجل يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه ويمتنع منه : «ما زال يفتل في الذّروة والغاب حتى بلغ منه ما أراد» ، فتجعله بظاهر اللفظ كأنه كان منه فتل في ذروة وغارب ، والمعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال الرجل يجيء إلى البعير الصّعب فيحكّه ويفتل الشّعر في ذروته وغاربه ، حتى يسكن ويستأنس ، وهو في المعنى نظير قولهم : «فلان يقرّد فلانا» ، يعنى به أنه يتلطّف له فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذّه ذلك ، فيسكن ويثبت في مكان حتى يتمكن من أخذه. وهكذا كلّ كلام رأيتهم قد نحو فيه نحو التمثيل ، ثم لم يفصحوا بذلك ، وأخرجوا اللفظ مخرجه إذا لم يريدوا تمثيلا.
فصل
قد أجمع الجميع على أن «الكناية» أبلغ من الإفصاح ، والتعريض أوقع من التصريح ، وأنّ للاستعارة مزية وفضلا ، وأنّ المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة ، إلّا أن ذلك ، وإن كان معلوما على الجملة ، فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ فيه غايته ، وحتى يغلغل الفكر إلى زواياه ، وحتى لا يبقى عليه موضع شبهة ومكان مسألة. فنحن وإن كنا نعلم أنك إذا قلت : «هو طويل النجاد ، وهو جمّ الرماد» ، كان أبهى لمعناك ، وأنبل من أن تدع الكناية وتصرح بالذي تريد. وكذا إذا قلت : «رأيت أسدا» ، كان لكلامك مزيّة لا تكون إذا قلت : رأيت رجلا هو والأسد سواء ، في معنى الشجاعة وفي قوة القلب وشدة البطش وأشباه ذلك. وإذا قلت : «بلغني أنك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى» ، كان أوقع من صريحه (١) الذي هو قولك : بلغني أنك تتردد في أمرك ، وأنك في ذلك كمن يقول : أخرج ولا أخرج ، فتقدّم رجلا وتؤخّر أخرى. ونقطع على ذلك حتى لا يخالجنا شك فيه ، فإنما تسكن أنفسنا تمام السكون ، إذا عرفنا السبب في ذلك والعلّة ، ولم كان كذلك ، وهيأنا له عبارة تفهم عنّا من نريد إفهامه. وهذا هو قول في ذلك :
__________________
(١) كان أوقع من صريحه : جملة لجواب الشرط وهو قوله «وإن كنا نعلم».