الشأن» ، ظننت أن لا يخشى على من يقوله الكذب. وهل عجب أعجب من قوم عقلاء يتلون قول الله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] ويؤمنون به ، ويدينون بأن القرآن معجز ، ثم يصدّون بأوجههم عن برهان الإعجاز ودليله ، ويسلكون غير سبيله؟ ولقد جنوا ، لو دروا ذاك ، عظيما.
فصل
واعلم أنه وإن كانت الصّورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أنّه لا معنى للنّظم غير توخّي معاني النّحو فيما بين الكلم ، قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية ، وإلى أن تكون الزيادة عليه كالتكلّف لما لا يحتاج إليه ، فإنّ النفس تنازع إلى تتبّع كلّ ضرب من الشّبهة يرى أنه يعرض للمسلّم نفسه عند اعتراض الشك.
وإنا لنرى أن في الناس من إذا رأى أنّه يجري في القياس وضرب المثل أن تشبّه الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض ، بضمّ غزل الإبريسم بعضه إلى بعض ، ورأى أنّ الذي ينسج الدّيباج ويعمل النّقش والوشي لا يصنع بالإبريسم الذي ينسج منه ، شيئا غير أن يضمّ بعضه إلى بعض ، ويتخيّر للأصباغ المختلفة المواقع التي يعلم أنه إذا أوقعها فيها حدث له في نسجه ما يريد من النقش والصورة جرى (١) في ظنّه أن حال الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض ، وفي تخيّر المواقع لها ، حال خيوط الإبريسم سواء ، ورأيت كلامه كلام من لا يعلم أنه لا يكون الضّم فيها ضمّا ، ولا الموقع موقعا ، حتى يكون قد توخّي فيها معاني النحو ، وأنك إن عمدت إلى ألفاظ فجعلت تتبع بعضها بعضا من غير أن تتوخّى فيها معاني النحو ، لم تكن صنعت شيئا تدعى به مؤلّفا ، وتشبّه معه بمن عمل نسجا أو صنع على الجملة صنيعا ، ولم يتصوّر أن تكون قد تخيّرت لها المواقع.
وفساد هذا وشبهه من الظّنّ ، وإن كان معلوما ظاهرا ، فإنّ هاهنا استدلالا لطيفا تكثر بسببه الفائدة ، وهو أنه يتصوّر أن يعمد عامد إلى نظم كلام بعينه فيزيله عن الصّورة التي أرادها الناظم له ويفسدها عليه ، من غير أن يحوّل منه لفظا عن موضعه ، أو يبدله بغيره ، أو يغيّر شيئا من ظاهر أمره على حال.
__________________
(١) السياق : وإنا لنرى في الناس من إذا رأى أنه يجري في القياس .... ورأى أن الذي ينسج الديباج .... جرى في ظنه ...».