مثال ذلك : أنك إن قدّرت في بيت أبي تمام : [من الطويل]
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه |
|
وأري الجنى اشتارته أيد عواسل (١) |
أنّ «لعاب الأفاعي» مبتدأ و «لعابه» خبر ، كما يوهمه الظاهر ، أفسدت عليه كلامه ، وأبطلت الصّورة التي أرادها فيه. وذلك أنّ الغرض أن يشبّه مداد قلمه بلعاب الأفاعي ، على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات أتلف به النفوس ، وكذلك الغرض أن يشبّه مداده بأري الجنى ، على معنى أنه إذا كتب في العطايا والصّلات أوصل به إلى النّفوس ما تحلو مذاقته عندها ، وأدخل السّرور واللّذة عليها. وهذا المعنى إنّما يكون إذا كان «لعابه» مبتدأ ، و «لعاب الأفاعي» خبرا. فأمّا تقديرك أن يكون «لعاب الأفاعي» مبتدأ و «لعابه» ، خبرا فيبطل ذلك ويمنع منه البتّة ، ويخرج بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكون مرادا في مثل غرض أبي تمّام ، وهو أن يكون أراد أن يشبّه «لعاب الأفاعي» بالمداد ، ويشبّه كذلك «الأري» به.
فلو كان حال الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض كحال غزل الإبريسم ، لكان ينبغي أن لا تتغيّر الصّورة الحاصلة من نظم كلم ، حتّى تزال عن مواقعها كما لا تتغير الصّورة الحادثة عن ضمّ غزل الإبريسم بعضه إلى بعض ، حتّى تزال الخيوط عن مواضعها.
واعلم أنه لا يجوز أن يكون سبيل قوله : «لعاب الأفاعي القاتلات لعابه» ، سبيل قولهم : «عتابك السّيف». وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك مشبه شيئا بشيء ، وجامع بينهما في وصف ، وليس المعنى في «عتابك السيف» ، على أنك تشبه عتابه بالسيف ، ولكن على أن تزعم أنه يجعل «السيف» بدلا من «العتاب».
أفلا ترى أنه يصحّ أن تقول : «مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي» ، ولا يصحّ أن تقول : «عتابك كالسيف» ، اللهم إلّا أن تخرج إلى باب آخر ، وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام ، فتريد أنه قد عاتب عتابا خشنا مؤلما. ثم إنك إن قلت : «السيف عتابك» ، خرجت به إلى معنى ثالث ، وهو أن تزعم أن عتابه قد بلغ في إيلامه وشدة تأثيره مبلغا صار له السّيف كأنه ليس بسيف.
__________________
(١) البيت في ديوانه (٢٤٢) ط ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، من قصيدة يمدح فيها محمدا بن عبد الملك الزيات ، ومطلعها :
متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل |
|
وقلبك منها مدّة الدهر آهل |
تطل الطلول الدمع في كل موقف |
|
وتمثل بالصبر الديار المواثل |
والبيت أورده السكاكي في المفتاح (٣١٦) ، والقزويني في الإيضاح (٨٤) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٥٩) ، وعزاه لأبي تمام ، ولطائف التبيان (٦٤) ، وشرح الصولي (٢ / ٣٣٣).