فيه ومن صفته ، بان بذلك أنّ الأمر على ما قلناه ، من أن اللّفظ تبع للمعنى في النظم ، وأنّ الكلم تترتّب في النطق بسبب ترتّب معانيها في النفس ، وأنها لو خلت من معانيها حتى تتجرّد أصواتا وأصداء حروف ، لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر ، أن يجب فيها ترتيب ونظم ، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل ، وأن يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك. والله الموفّق للصواب.
فصل
وهذه شبهة أخرى ضعيفة ، عسى أن يتعلّق بها متعلّق ممن يقدم على القول من غير رويّة : وهي أن يدّعي أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظيّ ، وتعديل مزاج الحروف حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان ، كالذي أنشده الجاحظ من قول الشاعر : [من السريع]
وقبر حرب بمكان قفر |
|
وليس قرب قبر حرب قبر (١) |
وقول ابن يسير (٢) : [من الخفيف]
لا أذيل الآمال بعدك إنّي |
|
بعدها بالآمال جدّ بخيل |
كم لها موقفا بباب صديق |
|
رجعت من نداه بالتعطيل |
لم يضرها والحمد لله ، شيء |
|
وانثنت نحو عزف نفس ذهول (٣) |
قال الجاحظ : «فتفقّد النصف الأخير من هذا البيت ، فإنّك ستجد بعض ألفاظه يتبّرأ من بعض» ويزعم أن الكلام في ذلك على طبقات ، فمنه المتناهي في الثّقل المفرط فيه ، كالذي مضى ، ومنه ما هو أخفّ منه كقول أبي تمام : [من الطويل]
كريم متى أمدحه أمدحه والورى |
|
جميعا ، ومهما لمته لمته «وحدي» (٤) |
__________________
(١) لا يعرف قائله ، وقيل : إنه من أشعار الجن ، وهو من الأبيات الدائرة في كتب البلاغة انظر البيان والتبيين (١ / ٦٥) ، ومعاهد التنصيص : (١ / ٣٤) ..
(٢) هو محمد بن يسير الرياشي. شاعر مقلّ. البيان والتبيين (١ / ٦٥).
(٣) في البيان والتبيين (١ / ٦٥ ـ ٦٦) ، «عزف» مصدر «ورجل عزوف عن اللهو إذا لم يشتهه» ، وعزفت نفسي عن الشيء : تركته بعد إعجابها. الذهول : من الذّهل وهو تركك الشيء تناساه على عمد. اللسان (عزف) (ذهل).
(٤) البيت في ديوانه وأورده الفخر الرازي في نهاية الإيجاز (ص ١٢٣) ، وعزاه لأبي تمام وجاء البيت برواية : كريم متى ......... جميعا ومهما لمته لمته وحدي.
وفي الإيضاح (ص ٦) ، والتبيان للطيبي (٢ / ٤٩٦) ، بتحقيقنا.