أي لا أمدحه بشيء إلّا صدّقني الناس فيه.
ومنه ما يكون فيه بعض الكلفة على اللسان ، إلّا أنّه لا يبلغ أن يعاب به صاحبه ويشهّر أمره في ذلك ويحفظ عليه.
ويزعم أن الكلام إذا سلم من ذلك وصفا من شوبه (١) ، كان الفصيح المشاد (٢) به والمشار إليه ، وأنّ الصّفاء أيضا يكون على مراتب يعلو بعضها بعضا ، وأنّ له غاية إذا انتهى إليها كان الإعجاز.
والذي يبطل هذه الشبهة ، إن ذهب إليها ذاهب ، أنّا إن قصرنا صفة «الفصاحة» على كون اللفظ كذلك ، وجعلناه المراد بها ، لزمنا أن نخرج «الفصاحة» من حيّز «البلاغة» ، ومن أن تكون نظيرة لها ، وإذا فعلنا ذلك ، لم نخل من أحد أمرين : إمّا أن نجعله العمدة في المفاضلة بين العبارتين ولا نعرّج على غيره ، وإمّا أن نجعله أحد ما نفاضل به ، ووجها من الوجوه التي تقتضي تقديم كلام على كلام.
فإن أخذنا بالأوّل ، لزمنا أن نقصر الفضيلة عليه حتى لا يكون الإعجاز إلا به وفيه ، وفي ذلك ما لا يخفى من الشّناعة ، لأنه يؤدّي إلى أن لا يكون للمعاني التي ذكروها في حدود البلاغة ـ من وضوح الدّلالة ، وصواب الإشارة ، وتصحيح الأقسام ، وحسن الترتيب والنظام ، والإبداع في طريقة التشبيه والتمثيل ، والإجمال ثم التفصيل ، ووضع الفصل والوصل موضعهما ، وتوفية الحذف والتأكيد والتقديم والتأخير شروطهما ـ مدخل فيما له كان القرآن معجزا ، حتّى يدّعى أنه لم يكن معجزا من حيث هو بليغ ، ولا من حيث هو قول فصل ، وكلام شريف النظم بديع التأليف ، وذلك أنه لا تعلّق لشيء من هذه المعاني بتلاؤم الحروف.
وإن أخذنا بالثاني ، وهو أن يكون تلاؤم الحروف وجها من وجوه الفضيلة ، وداخلا في عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة ، لم يكن لهذا الخلاف ضرر علينا ، لأنه ليس بأكثر من أن نعمد إلى «الفصاحة» فنخرجها من حيّز «البلاغة والبيان» ، وأن تكون نظيرة لهما ، وفي عداد ما هو شبههما من البراعة والجزالة وأشباه ذلك ، مما ينبئ عن شرف النظم ، وعن المزايا التي شرحت لك أمرها ، وأعلمتك جنسها ، أو نجعلها اسما مشتركا يقع تارة لما تقع له تلك ، وأخرى لما يرجع إلى سلامة اللفظ ممّا يثقل على اللسان. وليس واحد من الأمرين بقادح فيما نحن بصدده.
__________________
(١) الخلط. اه القاموس / شوب / (١٣٢).
(٢) يقال : أشاد فلان بذكر فلان في الخير والشر إذا نهره ورفعه. اللسان / شود / (٣ / ٢٤٣).