فصل
وإذا ثبت أن الجملة إذا بني عليها حصل منها ومن الذي بني عليها في الكثير ، معنى يجب فيه أن ينسب إلى واحد مخصوص ، فإنّ ذلك يقتضي لا محالة أن يكون «الخبر» في نفسه معنى هو غير المخبر به والمخبر عنه. ذاك لعلمنا باستحالة أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى المخبر ، وأن يكون المستنبط والمستخرج والمستعان على تصويره بالفكر. فليس يشكّ عاقل أنه محال أن يكون للحمل في قوله :
وما حملت أمّ امرئ في ضلوعها (١)
نسبة إلى الفرزدق ، وأن يكون الفكر منه كان فيه نفسه ، وأن يكون معناه الذي قيل إنّه استنبطه واستخرجه وغاص عليه. وهكذا السبيل أبدا ، لا يتصوّر أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى الشاعر ، وأن يبلغ من أمره أن يصير خاصّا به ، فاعرفه.
ومن الدليل القاطع فيه ، ما بيّنّاه في «الكناية» ، و «الاستعارة» و «التمثيل» وشرحناه ، من أن من شأن هذه الأجناس أن توجب الحسن والمزية ، وأنّ المعاني تتصوّر من أجلها بالصّور المختلفة ، وأن العلم بإيجابها ذلك ثابت في العقول ، ومركوز في غرائز النفوس. وبيّنّا كذلك أنه محال أن تكون المزايا التي تحدث بها ، حادثة في المعنى المخبر به ، المثبت أو المنفيّ ، لعلمنا باستحالة أن تكون المزيّة التي تجدها لقولنا : «هو طويل النجاد» على قولنا «طويل القامة» في الطول ، والتي تجدها لقولنا : «هو كثير رماد القدر» على قولنا : «هو كثير القرى والضيافة» في كثرة القرى. وإذا كان ذلك محالا ، ثبت أن المزيّة والحسن يكونان في إثبات ما يراد أن وصف به المذكور ، والإخبار به عنه. وإذا ثبت ذلك ، ثبت أنّ «الإثبات» معنى ، لأن حصول المزيّة والحسن فيما ليس بمعنى ، محال.
هذا ممّا نقل من مسودّته بخطّه بعد وفاته رحمهالله.
__________________
(١) صدر بيت له في ديوانه وعجزه :
أعق من الجاني عليها هجائيا
والبيت سبق تخريجه (ص ٣٤٢).