ذكرتها فيه على ذكر (١) منك أبدا ، فإنها عمد (٢) وأصول في هذا الباب ، إذا أنت مكّنتها في نفسك ، وجدت الشّبه تنزاح عنك ، والشكوك تنتفي عن قلبك ، ولا سيّما ما ذكرت من أنه لا يتصوّر أن تعرف للّفظ موضعا من غير أن تعرف معناه ، ولا أن تتوخّى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما ، وأنك تتوخّى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك ، فإذا تمّ لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها ، وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك ، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ ، بل تجدها تترتّب لك بحكم أنّها خدم للمعاني ، وتابعة لها ، ولا حقة بها ، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس ، علم بمواقع الألفاظ الدالّة عليها في النطق.
فصل
واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك ، أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب ، حتى يعلّق بعضها ببعض ، ويبنى بعضها على بعض ، وتجعل هذه بسبب من تلك ، هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس.
وإذا كان كذلك ، فبنا أن ننظر إلى التّعليق فيها والبناء ، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ، ما معناه وما محصوله؟ وإذا نظرنا في ذلك ، علمنا أن لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا ، أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر ، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول ، أو تأكيدا له ، أو بدلا منه ، أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون صفة أو حالا أو تمييزا ، أو تتوخّى في كلام هو لإثبات معنى ، أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنّيا ، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك (٣) أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر ، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى ، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمّنت معنى ذلك الحرف (٤) ، وعلى هذا القياس.
وإذا كان لا يكون في الكلم نظم ولا ترتيب إلّا بأن يصنع بها هذا الصنيع ونحوه ، وكان ذلك كلّه مما لا يرجع منه إلى اللفظ شيء ، وممّا لا يتصوّر أن يكون
__________________
(١) هو الحفظ للشيء وتذكره. والذكر : الشيء يجري على لسانك (التذكر). اللسان / ذكر / (٤ / ٣٠٨).
(٢) جمع عمود. اللسان / عمد / (٣ / ٣٠٤).
(٣) المقصود للنفي والاستفهام والتمني.
(٤) أي : أدوات الشرط.