بسم الله الرّحمن الرّحيم
فصل
[في كشف شبهة جعل الفصاحة للألفاظ]
اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث «اللفظ» كالداء الذي يسري في العروق ، ويفسد مزاج البدن ، وجب أن يتوخّى دائبا فيهم ما يتوخّاه الطبيب في النّاقة ، من تعهّده بما يزيد في منّته ، ويبقيه على صحّته ، ويؤمنه النّكس في علّته.
وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة ، هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصّور ، وتحدث فيها خواصّ ومزايا من بعد أن لا تكون.
وإنّك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل ، فصنع فيه ما يصنع الصّانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحليّ. فإنّ جهلهم بذلك من حالها ، هو الذي أغواهم واستهواهم ، وورّطهم فيما تورّطوا فيه من الجهالات ، وأدّاهم إلى التّعلّق بالمحالات. وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصّورة ، وضعوا لأنفسهم أساسا ، وبنوا على قاعدة فقالوا : إنه ليس إلا المعنى واللفظ ، ولا ثالث ـ وإنه إذا كان كذلك ، وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر ، ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصّة ، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى ، من حيث أنّ ذلك ، زعموا ، يؤدّي إلى التناقض ، وأن يكون معناهما متغايرا وغير متغاير معا.
ولمّا أقرّوا هذا في نفوسهم ، حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى «اللّفظ» على ظاهره ، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى «اللّفظ» ، مثل قولهم : «لفظ متمكّن غير قلق ولا ناب به موضعه» ، إلى سائر ما ذكرناه قبل ، فيعلموا أنّهم لم يوجبوا للّفظ ما أوجبوه من الفضيلة ، وهم يعنون نطق اللّسان وأجراس الحروف ، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا «اللفظ» ، وهم يريدون الصّورة التي تحدث في المعنى ، والخاصّة التي حدثت فيه ، ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال.