ولم تر قولا يضطرب على قائله حتى لا يدري كيف يعبّر ، وكيف يورد ويصدر ، كهذا القول. بل إن أردت الحقّ ، فإنه من جنس الشيء يجري به الرجل لسانه ويطلقه ، فإذا فتّش نفسه ، وجدها تعلم بطلانه ، وتنطوي على خلافه ، ذاك لأنه مما لا يقوم بالحقيقة في اعتقاد ، ولا يكون له صورة في فؤاد.
فصل
ومما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل ، الفرق بين قولنا : «حروف منظومة» ، و «كلم منظومة».
وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق ، وليس نظمها بمقتضى عن معنى (١) ، ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرّى في نظمه لها ما تحرّاه. فلو أنّ واضع اللغة كان قد قال : «ربض» مكان «ضرب» ، لما كان في ذلك ما يؤدّي إلى فساد.
وأمّا «نظم الكلم» فليس الأمر فيه كذلك ، لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني ، وترتّبها على حسب ترتّب المعاني في النفس. فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض ، وليس هو «النّظم» الذي معناه ضمّ الشيء إلى الشيء كيف جاء واتّفق. ولذلك كان عندهم نظيرا للنّسج والتأليف والصّياغة والبناء والوشي والتّحبير وما أشبه ذلك ، ممّا يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض ، حتى يكون لوضع كلّ حيث وضع ، علّة تقتضي كونه هناك ، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح.
والفائدة في معرفة هذا الفرق : أنك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم ، أن توالت ألفاظها في النطق ، بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها ، على الوجه الذي اقتضاه العقل. وكيف يتصوّر أن يقصد به إلى توالي الألفاظ في النطق ، بعد أن ثبت أنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض ، وأنّه نظير الصياغة والتّحبير (٢) والتّفويف (٣) والنقش ، وكل ما يقصد به التصوير ، وبعد أن كنّا لا نشك
__________________
(١) أي ليس واجبا لمعنى.
(٢) هو مأخوذ من التحبير وحسن الخط والمنطق وتحبير الخط والشعر بتحسينه. اه اللسان / حبر / (٤ / ١٥٧).
(٣) الفوف : ضرب من برود اليمن. وقال ابن الأعرابي : الفوف ثياب رقاق من ثياب اليمن موشاة وهو الفوف بضم الفاء وبرد مفوف برد رقيق. اه اللسان / فوف / (٩ / ٢٧٤).