وجملة الحديث أنّا نعلم ضرورة أنه لا يتأتّى لنا أن ننظم كلاما من غير رويّة وفكر ، فإن كان راوي الشعر ومنشده يحكي نظم الشاعر على حقيقته ، فينبغي أن لا يتأتى له رواية شعره إلّا برويّة ، وإلّا بأن ينظر في جميع ما نظر فيه الشاعر من أمر «النظم». وهذا ما لا يبقى معه موضع عذر للشّاكّ.
وهذا ، وسبب دخول الشّبهة على من دخلت عليه ، أنّه لما رأى المعاني لا تتجلّى للسامع إلّا من الألفاظ ، وكان لا يوقف على الأمور التي بتوخّيها يكون «النظم» ، إلّا بأن ينظر إلى الألفاظ مرتّبة على الأنحاء التي يوجبها ترتيب المعاني في النفس وجرت العادة (١) بأن تكون المعاملة مع الألفاظ فيقال : «قد نظم ألفاظا فأحسن نظمها ، وألّف كلما فأجاد تأليفها» جعل الألفاظ الأصل في «النظم» ، وجعله يتوخّى فيها أنفسها ، وترك أن يفكّر في الذي بيّنّاه من أن «النظم» هو توخّي معاني النّحو في معاني الكلم ، وأنّ توخّيها في متون الألفاظ محال. فلما جعل هذا في نفسه ، ونشب هذا الاعتقاد به ، خرج له من ذلك أن الحاكي إذا أدّى ألفاظ الشّعر على النّسق الذي سمعها عليه ، كان قد حكى نظم الشاعر كما حكى لفظه.
وهذه شبهة قد ملكت قلوب الناس ، وعشّشت في صدورهم ، وتشرّبتها نفوسهم ، حتى إنك لترى كثيرا منهم وهو من حلولها عندهم محلّ العلم الضروريّ ، بحيث إن أومأت له إلى شيء مما ذكرناه اشمأزّ لك ، وسكّ (٢) سمعه دونك ، وأظهر التعجّب منك. وتلك جريرة ترك النّظر ، وأخذ الشيء من غير معدنه ، ومن الله التوفيق.
فصل
[في النظم والترتيب]
اعلم أنا إذا أضفنا الشعر أو غير الشعر من ضروب الكلام إلى قائله ، لم تكن إضافتنا له من حيث هو كلم وأوضاع لغة ، ولكن من حيث توخّي فيها «النظم» الذي بيّنا أنه عبارة عن توخّي معاني النحو في معاني الكلم. وذاك أن من شأن الإضافة الاختصاص ، فهي تتناول الشيء من الجهة التي تختصّ منها بالمضاف إليه. فإذا قلت : «غلام زيد» ، تناولت الإضافة «الغلام» من الجهة التي تختصّ منها بزيد ، وهي كونه مملوكا.
__________________
(١) البيت : لعبيد الله بن قيس الرقيات (الديوان ٩١) وتقدم ذكره.
(٢) سكّ : سدّ. اه القاموس / سكّ / ١٢١٧.