فصل
[من التوكيد]
واعلم أن ممّا أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده ، أنّ هاهنا فروقا خفيّة تجهلها العامة وكثير من الخاصّة ، ليس أنهم يجهلونها في موضع ويعرفونها في آخر ، بل لا يدرون أنّها هي ، ولا يعلمونها في جملة ولا تفصيل.
روي عن ابن الأنباريّ (١) أنه قال : ركب الكنديّ (٢) المتفلسف إلى أبي العباس (٣) وقال له : إنّي لأجد في كلام العرب حشوا! فقال له أبو العباس : في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال : أجد العرب يقولون : «عبد الله قائم» ، ثم يقولون «إنّ عبد الله قائم» ، ثم يقولون : «إنّ عبد الله لقائم» ، فالألفاظ متكرّرة والمعنى واحد. فقال أبو العباس : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم : «عبد الله قائم» ، إخبار عن قيامه وقولهم : «إنّ عبد الله قائم» ، جواب عن سؤال سائل وقوله : «إنه عبد الله لقائم» ، جواب عن إنكار منكر قيامه ، فقد تكرّرت الألفاظ لتكرّر المعاني. قال فما أحار المتفلسف جوابا.
وإذا كان الكنديّ يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض ، فما ظنّك بالعامّة ، ومن هم في عداد العامّة ، ممن لا يخطر شبه هذا بباله؟. واعلم أنّ هاهنا دقائق لو أنّ الكنديّ استقرى وتصفّح وتتبع مواقع «إنّ» ، ثم ألطف النّظر وأكثر التدبّر ، لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل. فأوّل ذلك وأعجبه ما قدّمت لك ذكره في بيت بشّار : [من الخفيف]
بكّرا صاحبيّ قبل الهجير |
|
إنّ ذاك النّجاح في التّبكير (٤) |
وما أنشدته معه من قول بعض العرب : [من الرجز]
فغنّها وهي لك الفداء |
|
إنّ غناء الإبل الحداء (٥) |
__________________
(١) ابن الأنباري : محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن الأنباري أبو بكر أديب نحوي لغوي مفسر من كتبه (الكافي في النحو) ، (غريب الحديث) توفي عام ٣٢٨ ه (شذرات الذهب ٢ / ٣١٥) ، ومعجم المؤلفين (١١ / ١٤٣).
(٢) الكندي : يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي أبو يوسف فيلسوف العرب والإسلام في عصره اشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى وغيرها ، ألف وترجم كتبا كثيرة توفي ٢٦٠ ه (الأعلام).
(٣) إلى أبي العباس والمراد به أبو العباس المبرد صاحب الكامل. (٨ / ١٩٥).
(٤) سبق ص (١٨٤) ، هامش (١).
(٥) سبق ص (١٨٤) ، هامش (٢).