وذلك أنه هل شيء أبين في الفائدة ، وأدلّ على أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل ، أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها وتأتلف معه وتتّحد به ، حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغا واحدا ، وكأن أحدهما قد سبك في الآخر؟
هذه هي الصّورة ، حتى إذا جئت إلى «إنّ» فأسقطتها ، ورأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول ، وتجافى معناه عن معناه ، ورأيته لا يتّصل به ولا يكون منه بسبيل ، حتى تجيء «بالفاء» فتقول : «بكّرا صاحبي قبل الهجير ، فذاك النجاح في التبكير» ، و «غنّها وهي لك الفداء ، فغناء الإبل الحداء» ، ثم لا ترى «الفاء» تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة ، ولا تردّ عليك الذي كنت تجد «بإنّ» من المعنى.
وهذا الضرب كثير في التنزيل جدّا ، من ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] ، وقوله عزّ اسمه : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان : ١٧] ، وقوله سبحان : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣] ، ومن أبين ذلك قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [هود : ٣٧] [المؤمنون : ٢٧] ، وقد يتكرّر في الآية الواحدة كقوله عز اسمه : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف ٥٣] ، وهي على الجملة من الكثرة بحيث لا يدركها الإحصاء.
ومن خصائصها أنك ترى لضمير الأمر والشأن معها من الحسن واللّطف ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليه ، بل تراه لا يصلح حيث صلح إلا بها ، وذلك في مثل قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف : ٩] وقوله : (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ ، فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [التوبة : ٦٣] ، (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ) [الأنعام : ٥٤] ، وقوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون : ١١٧] ، ومن ذلك قوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحج : ٤٦] ، وأجاز أبو الحسن (١) فيها وجها آخر ، وهو أن يكون الضمير في «إنها» للأبصار ، أضمرت قبل الذكر على شريطة التفسير. والحاجة في هذا الوجه أيضا إلى «إنّ» قائمة ، كما كانت في الوجه الأوّل فإنه لا يقال : «هي لا تعمى الأبصار» كما لا يقال : «هو من يتّق ويصبر فإن الله لا يضيع».
__________________
(١) أبو الحسن : المراد به الأخفش الأوسط وهو سعيد بن مسعد.