فصل
[في الحكاية والنظم والترتيب]
اعلم أنه لا يصلح تقدير الحكاية في «النّظم والترتيب» ، بل لن تعدو الحكاية الألفاظ وأجراس الحروف ، وذاك أنّ الحاكي هو من يأتي بمثل ما أتى به المحكيّ عنه ، ولا بدّ من أن تكون حكايته فعلا له ، وأن يكون بها عاملا عملا مثل عمل المحكيّ عنه ، نحو أن يصوغ إنسان خاتما فيبدع فيه صنعة ، ويأتي في صناعته بخاصّة تستغرب ، فيعمد واحد فيعمل خاتما على تلك الصورة والهيئة ، ويجيء بمثل صنعته فيه ، ويؤدّيها كما هي ، فيقال عند ذلك : «إنه قد حكى عمل فلان ، وصنعة فلان».
و «النظم والترتيب» في الكلام كما بينّا ، عمل يعمله مؤلّف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها ، وهو بما يصنع في سبيل من يأخذ الأصباغ المختلفة فيتوخّى فيها ترتيبا يحدث عنه ضروب من النقش والوشي. وإذا كان الأمر كذلك ، فإنّا إن تعدّينا بالحكاية الألفاظ إلى النظم والترتيب ، أدّى ذلك إلى المحال ، وهو أن يكون المنشد شعر امرئ القيس ، قد عمل في المعاني وترتيبها واستخراج النّتائج والفوائد ، مثل عمل امرئ القيس ، وأن يكون حاله إذا أنشد قوله : [من الطويل]
فقلت له ، لمّا تمطّى بصلبه |
|
وأردف أعجازا وناء بكلكل (١) |
حال الصائغ ينظر إلى صورة قد عملها صائغ من ذهب له أو فضّة ، فيجيء بمثلها من ذهبه وفضّته. وذلك يخرج بمرتكب ، إن ارتكبه ، إلى أن يكون الرّاوي مستحقّا لأن يوصف بأنه : «استعار» و «شبّه» ، وأن يجعل كالشاعر في كلّ ما يكون به ناظما ، فيقال : إنه جعل هذا فاعلا ، وذاك مفعولا ، وهذا مبتدأ ، وذاك خبرا ، وجعل هذا حالا ، وذاك صفة ، وأن يقال : «نفى كذا» و «أثبت كذا» ، و «أبدل كذا من كذا».
و «أضاف كذا إلى كذا» ، وعلى هذا السّبيل ، كما يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذلك ، لزم منه أن يقال فيه : «صدق ، وكذب» ، كما قال في المحكيّ عنه ، وكفى بهذا بعدا وإحالة. ويجمع هذا كلّه ، أنه يلزم منه أن يقال : «إنّه قال شعرا» ، كما يقال فيمن حكى صنعة الصائغ في خاتم قد عمله : «إنه قد صاغ خاتما».
__________________
(١) البيت لامرئ القيس في معلقته المشهورة في ديوانه (١١٧) ، وقبله :
ألا رب خصم فيك ألوى رددته |
|
نصيح على تعذاله غير مؤتل |
وليل كموج البحر أرخى سدوله |
|
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي |