والسبب في ذلك أن هذا التعريض ، إنّما وقع بأن كان من شأن «إنّما» أن تضمّن الكلام معنى النفي من بعد الإثبات ، والتصريح بامتناع التذكّر ممن لا يعقل. وإذا أسقطت من الكلام فقيل : «يتذكّر أولو الألباب» ، كان مجرّد وصف لأولي الألباب بأنهم يتذكّرون ، ولم يكن فيه معنى نفي للتذكّر عمّن ليس منهم. ومحال أن يقع تعريض لشيء ليس له في الكلام ذكر ، ولا فيه دليل عليه. فالتعريض بمثل هذا أعني بأن تقول : «يتذكّر أولو الألباب» بإسقاط «إنما» ، يقع إذن إن وقع ، بمدح إنسان بالتيقّظ ، وبأنه فعل ما فعل ، وتنبّه لما تنبّه له ، لعقله ولحسن تمييزه ، كما يقال : «كذلك يفعل العاقل» ، و «هكذا يفعل الكريم».
وهذا موضع فيه دقّة وغموض ، وهو مما لا يكاد يقع في نفس أحد أنّه ينبغي أن يتعرّف سببه ، ويبحث عن حقيقة الأمر فيه.
وممّا يجب لك أن تجعله على ذكر منك من معاني «إنما» ، ما عرفتك أوّلا من أنها قد تدخل في الشيء على أن يخيّل فيه المتكلم أنه معلوم ، ويدّعي أنه من الصحة بحيث لا يدفعه دافع ، كقوله : [من الخفيف]
إنما مصعب شهاب من الله (١)
ومن اللطيف في ذلك قول قتب بن حصن : [من الطويل]
ألا أيّها النّاهي فزارة بعد ما |
|
أجدّت لغزو ، إنّما أنت حالم (٢) |
ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن اليهود : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١] ، دخلت «إنّما» لتدلّ على أنهم حين ادّعوا لأنفسهم أنهم مصلحون ، أظهروا أنهم يدّعون من ذلك أمرا ظاهرا معلوما ، ولذلك أكّد الأمر في تكذيبهم والردّ عليه ، فجمع بين «ألا» الذي هو للتنبيه ، وبين «إنّ» الذي هو التأكيد ، فقيل : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة : ١٢].
__________________
(١) راجع ص (٢١٩) هامش (١).
(٢) البيت لعويف بن معاوية بن عقبة بن حصن الفزاري ، ويسمى عويف القوافي لبيت قال فيه :
سأكذب من قد كان يزعم أنني |
|
إذا قلت قولا لا أجيد القوافيا |
انظر الأغاني ترجمة عويف القوافي (١٩ / ٢٠٥) ، والبيت في معجم الشعراء ص (٣٣٩) ، في ترجمة قتب بن حصن الفزاري.