هو جوابا لكلام سابق قد قيل فيه : «إن أنت إلّا بشر مثلنا» ، فيجب أن يؤتى به على وفق ذلك الكلام ، ويراعى فيه حذوه ، كما كان ذلك في الآية الأولى.
وجملة الأمر أنك متى رأيت شيئا هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جاء بالنفي ، فذلك التقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٢ ـ ٢٣] إنما جاء ، والله أعلم ، بالنفي والإثبات ، لأنه لما قال تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ، وكان المعنى في ذلك أن يقال للنبي صلىاللهعليهوسلم : «إنك لن تستطيع أن تحوّل قلوبهم عما هي عليه من الإباء ، ولا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم ، مع إصرارهم على كفرهم ، واستمرارهم على جهلهم ، وصدّهم بأسماعهم عما تقوله لهم وتتلوه عليهم» كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي صلىاللهعليهوسلم حال من قد ظنّ أنه يملك ذلك ، ومن لا يعلم يقينا أنه ليس في وسعه شيء أكثر من أن ينذر ويحذّر ، فأخرج اللّفظ مخرجه إذا كان الخطاب مع من يشكّ ، فقيل : «إن أنت إلّا نذير». ويبيّن ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل ومقاولته : «إنك لا تستطيع أن تسمع الميّت ، وأن تفهم الجماد ، وأن تحول الأعمى بصيرا ، وليس بيدك إلّا تبيّن وتحتجّ ، ولست تملك أكثر من ذلك» لا تقول هاهنا : «فإنّما الذي بيدك أن تبيّن وتحتج» ، ذلك لأنك لم تقل له «إنك لا تستطيع أن تسمع الميّت» ، حتى جعلته بمثابة من يظنّ أنه يملك وراء الاحتجاج والبيان شيئا. وهذا واضح ، فاعرفه.
ومثل هذا في أن الذي تقدّم من الكلام اقتضى أن يكون اللفظ كالذي تراه ، ومن كونه «بإن» و «إلّا» ، قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨].
فصل
هذا بيان آخر في «إنّما»
اعلم أنها تفيد في الكلام بعدها إيجاب الفعل لشيء ، ونفيه عن غيره ، فإذا قلت : «إنّما جاءني زيد» ، عقل منه أنك أردت أن تنفي أن يكون الجائي غيره. فمعنى الكلام معها شبيه بالمعنى في قولك : «جاءني زيد لا عمرو» ، إلا أن لها مزيّة ،