وأما الخبر بالنّفي والإثبات نحو : «ما هذا إلا كذا» ، و «إن هو إلّا كذا» ، فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشكّ فيه. فإذا قلت : «ما هو إلّا مصيب» أو «ما هو إلّا مخطئ» ، قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلت ، وإذا رأيت شخصا من بعيد فقلت : «ما هو إلّا زيد» ، لم تقله إلّا وصاحبك يتوّهم أنه ليس بزيد ، وأنه إنسان آخر ، ويجدّ في الإنكار أن يكون «زيدا».
وإذا كان الأمر ظاهر كالذي مضى ، لم تقله كذلك ، فلا تقول للرجل ترقّقه على أخيه وتنبّهه للذي يجب عليه من صلة الرّحم ومن حسن التّحابّ : «ما هو إلّا أخوك» وكذلك لا يصلح في «إنّما أنت والد» : «ما أنت إلّا والد» ، فأما نحو : «إنّما مصعب شهاب» ، فيصلح فيه أن تقول : «ما مصعب إلّا شهاب» ، لأنه ليس من المعلوم على الصحّة ، وإنما ادّعى الشاعر فيه أنه كذلك. وإذا كان هذا هكذا ، جاز أن تقوله بالنّفي والإثبات ، إلا أنك تخرج المدح حينئذ عن أن يكون على حدّ المبالغة ، من حيث لا تكون قد ادّعيت فيه أنه معلوم ، وأنه بحيث لا ينكره منكر ، ولا يخالف فيه مخالف.
ـ قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) [إبراهيم : ١٠] إنّما جاء ، والله أعلم ، «بإن» و «إلا» دون «إنّما» ، فلم يقل : «إنّما أنتم بشر مثلنا» ، لأنهم جعلوا الرسل كأنّهم بادّعائهم النبوّة قد أخرجوا أنفسهم عن أن يكونوا بشرا مثلهم ، وادّعوا أمرا لا يجوز أن يكون لمن هو بشر. ولما كان الأمر كذلك ، أخرج اللّفظ مخرجه حيث يراد إثبات أمر يدفعه المخاطب ويدعى خلافه ، ثم جاء الجواب من الرّسل الذي هو قوله تعالى : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [إبراهيم : ١١] ، كذلك «بإن» و «إلّا» دون «إنما» ، لأن من حكم من ادّعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه ، أن يعيد كلام الخصم على وجهه ، ويجيء به على هيئته ويحكيه كما هو. فإذا قلت للرجل : «أنت من شأنك كيت وكيت» ، قال : «نعم ، أنا من شأني كيت وكيت ، ولكن لا ضير عليّ ، ولا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم» ، فالرسل صلوات الله عليهم كأنهم قالوا : «إنّ ما قلتم من أنّا بشر مثلكم كما قلتم ، لسنا ننكر ذلك ولا نجهله ، ولكن ذلك لا يمنعنا من أن يكون الله تعالى قد منّ علينا وأكرمنا بالرسالة.
وأما قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الكهف : ١١٠] ، [فصلت : ٦] فجاء «بإنما» ، لأنه ابتداء كلام قد أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بأن يبلّغه إياهم ويقوله معهم ، وليس