وجدت الناس بين منكر له من أصله ، ومتحيّل (١) له على غير وجهه ، ومعتقد أنه باب لا تقوى عليه العبارة ، ولا يملك فيه إلّا الإشارة ، وأنّ طريق التعليم إليه مسدود ، وباب التفهيم دونه مغلق ، وأنّ معانيك فيه معان تأبى أن تبرز من الضمير ، وأن تدين للتبيين والتصوير ، وأن ترى سافرة لا نقاب عليها ، وبادية (٢) لا حجاب دونها ، وأن ليس للواصف لها إلا أن يلوّح ويشير ، أو يضرب مثلا ينبئ عن حسن قد عرفه على الجملة ، وفضيلة قد أحسّها ، من غير أن يتبع ذلك بيانا ، ويقيم عليه برهانا ، ويذكر له علّة ، ويورد فيه حجّة. وأنا أنزّل لك القول في ذلك وأدرّجه شيئا فشيئا ، وأستعين الله تعالى عليه ، وأسأله التوفيق.
فصل
في اللفظ يطلق والمراد به غير ظاهره.
اعلم أن لهذا الضرب اتّساعا وتفنّنا لا إلى غاية ، إلّا أنه على اتساعه يدور في الأمر الأعمّ على شيئين : «الكناية» و «المجاز».
والمراد بالكناية هاهنا أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني ، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود ، فيومئ به إليه ، ويجعله دليلا عليه ، مثال ذلك قولهم : «هو طويل النجاد» ، يريدون طويل القامة ، «وكثير رماد القدر» ، يعنون كثير القرى ، وفي المرأة : «نؤوم الضّحى» ، والمراد أنها مترفة مخدومة ، لها من يكفيها أمرها ، فقد أرادوا في هذا كله ، كما ترى ، معنى ، ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به ، ولكنهم توصّلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود ، وأن يكون إذا كان. أفلا ترى أن القامة إذ طالت طال النّجاد؟ وإذا كثر القرى كثر رماد القدر؟ وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها ، ردف ذلك أن تنام إلى الضحى؟
وأما «المجاز» ، فقد عوّل الناس في حدّه على حديث النّقل ، وأنّ كل لفظ نقل عن موضوعه فهو «مجاز» ، الكلام في ذلك يطول ، وقد ذكرت ما هو الصحيح من ذلك في موضع آخر ، وأنا أقتصر هاهنا على ذكر ما هو أشهر منه وأظهر. والاسم والشهرة فيه لشيئين : «الاستعارة» و «التمثيل». وإنّما يكون «التمثيل» مجازا إذا جاء على حدّ «الاستعارة».
فالاستعارة : أن تريد تشبيه الشيء بالشيء ، فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره ،