وإذا كان الأمر كذلك ، فينبغي لنا أن ننظر في الجهة التي يختصّ منها الشّعر بقائله.
وإذا نظرنا وجدناه يختصّ به من جهة توخّيه في معاني الكلم التي ألّفه منها ، ما توخّاه من معاني النّحو ، ورأينا أنفس الكلم بمعزل عن الاختصاص ، ورأينا حالها معه حال الإبريسم مع الذي ينسج منه الدّيباج ، وحال الفضّة والذهب مع من يصوغ منهما الحليّ. فكما لا يشتبه الأمر في أنّ الديباج لا يختصّ بناسجه من حيث الإبريسم ، والحليّ بصائغها من حيث الفضّة والذهب ، ولكن من جهة العمل والصّنعة ، كذلك ينبغي أن لا يشتبه أنّ الشعر لا يختصّ بقائله من جهة أنفس الكلم وأوضاع اللغة.
وتزداد تبيّنا لذلك بأن تنظر في القائل إذا أضفته إلى الشعر فقلت : «امرؤ القيس قائل هذا الشعر» ، من أين جعلته قائلا له؟ أمن حيث نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه ، أم من حيث صنع في معانيها ما صنع ، وتوخّى فيها ما توخّى؟ فإن زعمت أنّك جعلته قائلا له من حيث أنه نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه على النّسق المخصوص ، فاجعل راوي الشعر قائلا له ، فإنه ينطق بها ويخرجها من فيه على الهيئة والصّورة التي نطق بها الشاعر ، وذلك ما لا سبيل لك إليه.
فإن قلت : إنّ الراوي وإن كان قد نطق بألفاظ الشّعر على الهيئة والصّورة التي نطق بها الشاعر ، فإنه هو لم يبتدئ فيها النّسق والترتيب ، وإنما ذلك شيء ابتدأه الشاعر ، فلذلك جعلته القائل له دون الرّاوي.
قيل لك : خبّرنا عنك ، أترى أنه يتصوّر أن يجب لألفاظ الكلم التي تراها في قوله : [من الطويل]
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (١)
هذا الترتيب ، من غير أن يتوخّى في معانيها ما تعلم أنّ امرأ القيس توخّاه من كون «نبك» جوابا للأمر ، وكون «من» معدّية له إلى «ذكرى» ، وكون «ذكرى» مضافة إلى «حبيب» ، وكون «منزل» معطوفا على «حبيب» ، أم ذلك محال؟.
__________________
(١) البيت لامرئ القيس في ديوانه (١١٠) ، وهو مطلع معلقته الشهيرة ، وتمامه :
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
سقط اللوى : منقطع الرمل ، والدخول وحومل قيل : إنهما موضعان في شرق اليمامة.