واعلم أنه إن نظر ناظر في شأن المعاني والألفاظ إلى حال السامع ، فإذا رأى المعاني تقع في نفسه من بعد وقوع الألفاظ في سمعه ، ظنّ لذلك أنّ المعاني تبع للألفاظ في ترتيبها. فإنّ هذا الذي بيّنّاه يريه فساد هذا الظنّ. وذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعا للألفاظ في ترتيبها ، لكان محالا أن تتغيّر المعاني والألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها. فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغيّر من غير أن تتغيّر الألفاظ وتزول عن إمكانها ، علمنا أن الألفاظ هي التابعة ، والمعاني هي المتبوعة.
واعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين فيجعلهما مبتدأ وخبرا ، ثم يقدّم الذي هو الخبر ، إلّا أشكل الأمر عليك فيه ، فلم تعلم أن المقدّم خبر ، حتى ترجع إلى المعنى وتحسن التدبّر.
أنشد الشّيخ أبو علي في «التّذكرة» (١) : [من الخفيف]
نم وإن لم أنم كراي كراكا (٢)
ثم قال : «ينبغي أن يكون «كراي» خبرا مقدّما ، ويكون الأصل : «كراك كراي» ، أي نم ، وإن لم أنم فنومك نومي ، كما تقول : «قم ، وإن جلست ، فقيامك قيامي ، هذا هو عرف الاستعمال في نحوه» ثم قال : «وإذا كان كذلك ، فقد قدّم الخبر وهو معرفة ، وهو ينوي به التأخير من حيث كان خبرا» قال : «فهو كبيت الحماسة: [من الطويل]
بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا |
|
بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد |
فقدّم خبر المبتدأ وهو معرفة ، وإنّما دلّ على أنه ينوي التأخير المعنى ، ولو لا ذلك لكانت المعرفة ، إذا قدّمت ، هي المبتدأ لتقدّمها ، فافهم ذلك». هذا كلّه لفظه.
واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضّرب من الكلام ، إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك ، من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة ، من غير
__________________
(١) وهو للإمام الحسن بن أحمد الفارسي ، وهو كبير من مجلدات لخصه ابن جني. كشف الظنون (١ / ٣٨٤).
(٢) صدر بيت لأبي تمام في ديوانه (٤٦١) ، وبعده :
طال صبري تفديك نفسي وقلّت |
|
نفس مثلي عن أن تكون فداكا |
ورواية الديوان :
نم فإن لم أنم كراي كراكا |
|
شاهدي منك أن ذاك كذاكا |