وليس العجب إلّا أنهم لا يذكرون شيئا من «المجاز» إلّا قالوا : «إنه أبلغ من الحقيقة». فليت شعري ، إن كان لفظ «أسد» قد نقل عمّا وضع له في اللغة ، وأزيل عنه ، وجعل يراد به «الشجاع» هكذا غفلا ساذجا ، فمن أين يجب أن يكون قولنا : «أسد» ، أبلغ من قولنا «شجاع»؟.
وهكذا الحكم في «الاستعارة» ، هي ، وإن كانت في ظاهر المعاملة من صفة «اللفظ» ، وكنا نقول : «هذه لفظة مستعارة» و «قد استعير له اسم الأسد» فإنّ مآل الأمر إلى أنّ القصد بها إلى المعنى.
يدلّك على ذلك أنا نقول : «جعله أسدا» و «جعله بدرا» ، و «جعله بحرا» ، فلو لم يكن القصد بها إلى المعنى ، لم يكن لهذا الكلام وجه ، لأن «جعل» لا تصلح إلّا حيث يراد إثبات صفة للشيء ، كقولنا : «جعلته أميرا» و «جعلته واحد دهره» ، تريد أثبتّ له ذلك. وحكم «جعل» إذا تعدّى إلى مفعولين حكم «صيّر» ، فكما لا تقول : «صيرته أميرا» ، إلا على معنى أنّك أثبتّ له صفة الإمارة ، كذلك لا يصحّ أن تقول : «جعلته أسدا» ، إلا على معنى أنك جعلته في معنى الأسد ولا يقال : «جعلته زيدا» ، بمعنى «سمّيته زيدا» ، ولا يقال للرجل : «اجعل ابنك زيدا» بمعنى : «سمّه زيدا» و «ولد لفلان ابن فجعله زيدا» ، وإنّما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصّل.
فأمّا قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] ، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها ، وذلك أن المعنى على أنّهم أثبتوا للملائكة صفة «الإناث» ، واعتقدوا وجودها فيهم. وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم ، أعني إطلاق اسم «البنات» ، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ «الإناث» أو لفظ «البنات» اسما من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. هذا محال لا يقوله له عاقل. أما تسمع قول الله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف : ١٩]؟ فإن كانوا لم يزيدوا على أن أجروا الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنى بإجرائه عليهم ، فأيّ معنى لأن يقال : «أشهدوا خلقهم»؟ هذا ، ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة ، ولم يزيدوا على أن وضعوا اسما ، لما استحقّوا إلا اليسير من الذمّ ، ولما كان هذا القول منهم كفرا. والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى.
وجملة الأمر أنه إن قيل : «إنه ليس في الدنيا علم قد عرض للناس فيه من فحش الغلط ، ومن قبيح التورّط ، ومن الذهاب مع الظّنون الفاسدة ما عرض لهم في هذا