اعلم أنّ سبيلك أوّلا أن تعلم أن ليست المزيّة ـ التي تثبتها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره ، والمبالغة التي تدّعي لها ـ في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم إليها بخبره ، ولكنها في طريق إثباته لها وتقريره إياها.
تفسير هذا : أن ليس المعنى إذا قلنا : «إن الكناية أبلغ من التصريح» ، أنّك لمّا كنيت عن المعنى زدت في ذاته ، بل المعنى أنك زدت في إثباته ، فجعلته أبلغ وآكد وأشدّ. فليست المزيّة في قولهم : «جمّ الرماد» ، أنه دلّ على قرى أكثر ، بل أنّك أثبتّ له القرى الكثير من وجه هو أبلغ ، وأوجبته إيجابا هو أشدّ ، وادّعيته دعوى أنت بها أنطق ، وبصحّتها أوثق.
وكذلك ليست المزية التي تراها لقولك : «رأيت أسدا» ، على قولك : رأيت رجلا لا يتميّز عن الأسد في شجاعته وجرأته أنك قد أفدت بالأوّل زيادة في مساواته الأسد ، بل أن أفدت (١) تأكيدا وتشديدا وقوة في إثباتك له هذه المساواة ، وفي تقريرك لها. فليس تأثير الاستعارة إذن في ذات المعنى وحقيقته ، بل في إيجابه والحكم به.
وهكذا قياس «التّمثيل» ، ترى المزيّة أبدا في ذلك تقع في طريق إثبات المعنى دون المعنى نفسه. فإذا سمعتهم يقولون : إنّ من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني نبلا وفضلا ، توجب لها شرفا ، وأن تفخّمها في نفوس السامعين ، وترفع أقدارها عند المخاطبين ، فإنهم لا يريدون الشجاعة والقرى وأشباه ذلك من معاني الكلم المفردة ، وإنما يعنون إثبات معاني هذه الكلم لمن تثبت له ويخبر بها عنه.
هذا ما ينبغي للعاقل أن يجعله على ذكر منه أبدا ، وأن يعلم أن ليس لنا ـ إذا نحن تكلمنا في البلاغة والفصاحة ـ مع معاني الكلم (٢) المفردة شغل ، ولا هي منا بسبيل ، وإنّما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب. وإذ قد عرفت مكان هذه المزيّة والمبالغة التي لا تزال تسمع بها ، وأنها في الإثبات دون المثبت ، فإنّ لها في كل واحد من هذه الأجناس سببا وعلة.
أما «الكناية» ، فإنّ السبب في أن كان للإثبات بها مزيّة لا تكون للتصريح ، أنّ كل عاقل يعلم إذا رجع إلى نفسه ، أنّ إثبات الصفة بإثبات دليلها ، وإيجابها بما هو شاهد في وجودها ، آكد وأبلغ في الدّعوى من أن تجيء إليها فتثبتها هكذا ساذجا
__________________
(١) المعنى : «أن تعلم أن ليست المزية ... في أنفس المعاني».
(٢) المعنى : «أن ليس لنا ... مع معاني الكلم».