بسم الله الرّحمن الرّحيم
قد أردنا أن نستأنف تقريرا نزيد به النّاس تبصيرا أنّهم في عمياء من أمرهم حتّى يسلكوا المسلك الذي سلكناه ، يفرغوا خواطرهم لتأمّل ما استخرجناه ، وأنّهم ـ ما لم يأخذوا أنفسهم بذلك ، ولم يجرّدوا عناياتهم له ـ في غرور ، كمن يعد نفسه الرّيّ من السّراب اللامع ، ويخادعها بأكاذيب المطامع.
يقال لهم : إنكم تتلون قول الله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] ، وقوله عزوجل : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) [هود : ١٣] ، وقوله : (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ، فقولوا الآن : أيجوز أن يكون تعالى قد أمر نبيّه صلىاللهعليهوسلم بأن يتحدّى العرب إلى أن يعارضوا القرآن بمثله ، من غير أن يكونوا قد عرفوا الوصف الذي إذا أتوا بكلام على ذلك الوصف ، كانوا قد أتوا بمثله؟.
ولا بدّ من «لا» ، لأنهم إن قالوا : «يجوز» ، أبطلوا التحدّي ، من حيث أن التّحدّي ، كما لا يخفى ، مطالبة بأن يأتوا بكلام على وصف ، ولا تصحّ المطالبة بالإتيان به على وصف من غير أن يكون ذلك الوصف معلوما للمطالب ، ويبطل بذلك دعوى الإعجاز أيضا. وذلك لأنه لا يتصوّر أن يقال : «إنّه كان عجز ، حتى يثبت معجوز عنه معلوم. فلا يقوم في عقل عاقل أن يقول لخصم له : «قد أعجزك أن تفعل مثل فعلي» ، وهو لا يشير له إلى وصف يعلمه في فعله ، ويراه قد وقع عليه. أفلا ترى أنه لو قال رجل لآخر : «إنّي قد أحدثت في خاتم عملته صنعة أنت لا تستطيع مثلها» ، لم تتّجه له عليه حجّة ، ولم يثبت به أنّه قد أتى بما يعجزه ، إلا من بعد أن يريه الخاتم ، ويشير له إلى ما زعم أنه أبدعه فيه من الصّنعة ، لأنه لا يصحّ وصف الإنسان بأنه قد عجز عن شيء ، حتى يريد ذلك الشيء ويقصد إليه ، ثم لا يتأتّى له. وليس يتصوّر أن يقصد إلى شيء لا يعلمه ، وأن تكون منه إرادة لأمر لم يعلمه في جملة ولا تفصيل.
ثم إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفا قد تجدّد بالقرآن ، وأمرا لم يوجد في غيره ، ولم يعرف قبل نزوله. وإذا كان كذلك ، فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في «الكلم المفردة» ، لأن تقدير كونه فيها يؤدّي إلى المحال ، وهو أن تكون