وقال لبيد : [من المنسرح]
أخشى على أربد الحتوف ، ولا |
|
أرهب نوء السّماك والأسد (١) |
قال : وأخذه البحتريّ فأحسن وطغى اقتدارا على العبارة ، واتّساعا في المعنى ، فقال : [من الكامل]
لو أنّني أوفي التّجارب حقّها |
|
فيما أرت ، لرجوت ما أخشاه |
وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب (٢) أيضا ، أنشد لإبراهيم بن المهديّ : [من السريع]
يا من لقلب صيغ من صخرة |
|
في جسد من لؤلؤ رطب |
جرحت خدّيه بلحظي ، فما |
|
برحت حتّى اقتصّ من قلبي (٣) |
ثم قال : قال عليّ بن هارون : أخذه أحمد بن أبي فنن معنى ولفظا فقال :
أدميت باللّحظات وجنته |
|
فاقتصّ ناظره من القلب (٤) |
قال : ولكنه بنقاء عبارته وحسن مأخذه ، قد صار أولى به.
ففي هذا دليل لمن عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرّد اللفظ ، ولكن صورة وصفة وخصوصية تحدث في المعنى ، وشيئا طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع ، فإنّه على كل حال لم يقل في البحتري أنه «أحسن فطغى اقتدارا على العبارة» ، من أجل حروف.
__________________
(١) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه (ص ٣٩) ، وفي الكامل (٣ / ٢٢٩) ، وفي الأغاني (١٧ / ٥٩ ، ٦٠ ، ٦٧) ، وهو من مجموعة أبيات قالها يرثي أخاه أربد الذي قتل بسحابة ارتفعت فرمته بصاعقة فأحرقته نتيجة دعوة النبي صلىاللهعليهوسلم ، ومما قاله لبيد في رثاء أخيه قوله :
ما إن تعرى المنون من أحد |
|
لا والد مشفق ولا ولد |
فجعني الرعد والصواعق بال |
|
فارس يوم الكريهة النّجد |
يا عين هلّا بكيت أربد إذ |
|
قمنا وقام الخصوم في كبد |
(تعرى المنون) للبناء للمفعول تترك وتهمل ويقال لكل شيء أهملته وضليت سبيله قد عريته.
والنّجد : البطل ذو النجدة أو المنجد. والكبد : الشدّة والمشقة هكذا فسر أبو عبيدة قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) ، ومعنى البيت الذي معنا : أن الشاعر يخشى المنون على أربد ولم يظن أن تصيبه صاعقة ذت وتكون السبب الأول من أسباب موته.
(٢) المراد به كتاب «الشعر والشعراء» «للمرزباني» ، وتقدم التعريف به.
(٣) لإبراهيم بن المهدي أخو هارون الرشيد (المتوفى سنة ٢٢٤ ه) الشذرات (٢ / ٥٣).
(٤) لأحمد بن أبي فنن من شعراء الدولة العباسية. البيتان : تقدم تخريجهما.