فيما بين شيئين ، والأصل والأوّل هو «الخبر» ، وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع. ومن الثّابت في العقول والقائم في النفوس ، أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه ، لأنه ينقسم إلى «إثبات» و «نفي» ، و «الإثبات» يقتضي مثبتا ومثبتا له ، و «النفي» يقتضي منفيّا ومنفيّا عنه. فلو حاولت أن تتصوّر إثبات معنى أو نفيه ، من غير أن يكون هناك مثبت له ومنفيّ عنه ، حاولت ما لا يصحّ في عقل ، ولا يقع في وهم. من أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء ، وكنت إذا قلت : «ضرب» ، لم تستطع أن تريد منه معنى في نفسك ، من غير أن تريد الخبر به عن شيء مظهر أو مقدّر ، وكان لفظك به ، إذا أنت لم ترد ذلك ، وصوتا تصوّته ، سواء.
وإن أردت أن يستحكم معرفة ذلك في نفسك ، فانظر إليك إذا قيل لك : «ما فعل زيد»؟ فقلت : «خرج» ، هل يتصوّر أن يقع في خلدك من «خرج» معنى من دون أن تنوي فيه ضمير «زيد»؟ وهل تكون إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك إلّا مخرجا نفسك إلى الهذيان؟ وكذلك فانظر إذا قيل لك : «كيف زيد»؟ ، فقلت : «صالح» : هل يكون لقولك : «صالح» أثر في نفسك من دون أن تريد «هو صالح»؟ أم هل يعقل السامع شيئا إن هو لم يعتقد ذلك؟
إذا ثبت ذلك ، فإنه ما لا يبقى معه لعاقل شكّ ، أنّ الخبر معنى لا يتصوّر إلا بين شيئين يكون أحدهما مثبتا ، والآخر مثبتا له ، أو يكون أحدهما منفيّا ، والآخر منفيّا عنه وأنه لا يتصور مثبت من غير مثبت له ، ومنفيّ من دون منفيّ عنه. فلما كان الأمر كذلك ، أوجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل واسم ، كقولنا : «خرج زيد» ، أو اسم واسم ، كقولنا : «زيد منطلق». فليس في الدّنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل ، وبغير هذا الدليل ، وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمّة ، وحكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة.
وإذ قد عرفت أنه لا يتصوّر الخبر إلا فيما بين شيئين : مخبر به ومخبر عنه ، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث ، وذلك أنه كما لا يتصوّر أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه ، وكذلك لا يتصوّر حتّى يكون له مخبر يصدر عنه ويحصل من جهته ، وتعود التّبعة فيه عليه ، فيكون هو الموصوف بالصّدق إن كان صدقا ، وبالكذب إن كان كذبا. أفلا ترى أن من المعلوم ضرورة أنه لا يكون إثبات ونفي ، حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته ، ويكون