فهذا هو السبب المباشر للمأساة. الوقت والطاقة والفراغ وسائر النعم هي ذخيرة الإنسان ليوم الحساب ، فمن بذّرها للمتعة العاجلة في الدنيا فما ذا يبقى له ليوم فاقته؟
إنّما السعيد من قدّم شيئا ممّا عنده لحياته الخالدة ، وقسّم وقته وطاقاته بين السعي للدنيا والعمل للآخرة ، ولم يكن همّه التمتّع بكل ما يملك في دنياه فيكون مثله كذلك الشاب الذي أبلى شبابه في الّلذات فاذا تقدّم به العمر إلى خريف الحياة لم يجد إلّا الحرمان والألم والحسرات.
ولكن ما الذي يدعو الإنسان إلى التبذير بالطيّبات في الدنيا ، هل الحاجة الضرورية؟ كلّا .. ذلك أنّ حاجات الإنسان محدودة ، ويمكن له توفيرها ببعض قدراته. إنّه يوفّر لقمة عيشه وسكناه وأمتعته بأيسر الجهد ، إنّما لهث البشر يكون عادة وراء الكماليّات. إنّه يختار ألذّ الطعام ، وأرفه المساكن ، وأرقى المتاع ، حتى ولو كان على حساب آخرته ، فيظلم الناس بالسرقة والغش ، وقد يصبح أداة للطغاة من أجل الحصول على الكماليّات ، ولأنّ الكماليّات بدورها درجات ولا يمكنه أن يبلغ مداها فانّك تراه دائب اللهث وراءها ، فاذا بنى قصرا ووجد قصر صاحبه أفخم عقد العزم على بناء ما هو أعظم من بناء صاحبه ، وإذا اقتنى سيارة وعلم أنّ أخرى خيرا منها دخل السوق سعيا نحو شرائها بكلّ وسيلة ممكنة ، وهكذا ..
وهنا نتساءل : ما هو جذر التنافس على الكماليّات بهذه الشدّة ، مع أنّ بعضها لا يمسّ شهوات الإنسان من قريب؟.
الجواب : إنّه الاستكبار. حيث يبحث الإنسان أبدا عن التعالي على أقرانه بحق أو بباطل ، وإذا نزع الإنسان رداء الكبرياء ، وتسربل بالخشوع والقنوع ، فانّه يقتلع جذر الانحراف من نفسه ، هنالك يكتفي بالضرورات وما يتيسّر له من زينة الدنيا ،