لما انتهى اليه كتاب معاوية وهو بفلسطين ، استشار ابنية عبد الله ومحمدا ، وقال : يا ابني ، إنّه قد كان مني في أمر عثمان فلتات لم استقبلها بعد ، وقد كان من هروبي بنفسي حين ظننت أنّه مقتول ما قد احتمله معاوية عني ، وقد قدم على معاوية جرير ببيعة علي ، وقد كتب إليّ معاوية بالقدوم عليه ، فما تريان؟ فقال عبدالله وهو الأكبر : أرى والله أنّ نبيّ الله قبض وهو عنك راض ، والخليفتان من بعده كذلك ، وقتل عثمان وأنت غائب ، فأقم في منزلك ، فلست مجعولا خليفة ، ولا تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة ، أوشكتما أن تهلكا فتستويا فيها جميعا ، وقال محمد : أرى أنّك شيخ قريش ، وصاحب أمرها ، فإن ينصرم هذا الأمر وأنت فيه غافل ، يصغر أمرك فالحق بجماعة أهل الشام ، واطلب بدم عثمان ، فإنّك به تستميل الى بني أميّة ، فقال عمرو : أمّا أنت يا عبدالله فأمرتني بما هو خير لي في ديني ، وأمّا أنت يا محمد فقد أمرتني بما هو خير لي في دنياي ، ثم دعا غلاما له يقال له وردان ، وكان داهيا ، فقال له عمرو : يا وردان احطط ، يا وردان ارحل ، يا وردان احطط ، يا وردان ارحل ، فقال وردان : أما إنّك إن شئت نبّأتك بما في نفسك ، فقال عمرو : هات يا وردان ، فقال : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت مع عليّ الآخرة بلا دنيا ، ومع معاوية الدنيا بغير آخرة ، فأنت واقف بينهما ، فقال عمرو : ما أخطأت ما في نفسي ، فما ترى يا وردان؟ فقال : أرى أن تقيم في منزلك ، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم ، وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك ، فقال عمرو : الآن حين شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية؟! (١)
وذهب عمرو إلى معسكر معاوية تاركا آخرته لدنياه ، ثم لمّا دنت منه الوفاة وكان في فلسطين قال لمن حوله : احملوا جسدي إلى صحن الدار ، فلمّا حمل وطرح على الأرض نظر إلى السماء فقال : لست بذي عذر فاعتذر ، ولا بذي قوة فانتصر ،
__________________
(١) الامامة والسياسة / ج ١ ص ٩٦