فافعل بي ما تشاء ، ومات.
ونجد في مقابل هذه الهزيمة صورة للصمود أمام فتنة الحياة ، عند عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) الذي وقف مع الحق في حرب صفين وهو يناهز التسعين من العمر ، ولمّا رأى الإمام علي (ع) شيخوخته أمره أن يشدّ ظهره ، وحواجب عينيه حتى لا يبدو للناس ضعيفا ، فبرز (رضي الله عنه) للقتال ، وقال مخاطبا عمرو بن العاص : يا عمرو بعت دينك بمصر فتبّا لك ، فطال ما بغيت الإسلام عوجا ، ثم قال : اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك في أن أقذف بنفسي هذا البحر لفعلت ، اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك في أن أضع ظبّة سيفي في بطني ثم انحني عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت ، اللهمّ إنّي أعلم ممّا علّمتني أنّي لا أعلم عملا هذا اليوم هو أرضى لك من جهاد هؤلاء القاسطين ، ولو أعلم اليوم عملا هو أرضى لك منه لفعلته. وحارب حتى استشهد مع الحق. ولكن لما ذا اختار عمّار (رضي الله عنه) هذا المواقف ، بينما اختار ابن العاص الهزيمة أمام الفتنة والجواب : لأنّ عمّار كان دائما مع الحق ، وحتى في دقائق حياته ، ومنذ إيمانه بالرسول (ص) ، حتى قال فيه الإمام الصادق (ع): «ما خيّر عمّار بين أمرين (كلاهما في الله) إلّا اختار أشدّهما»
وربما عناه الإمام علي (ع) بقوله : «كان لي فيما مضى أخ في الله ، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه ... وكان إذا بدهه أمران ينظر أيّهما أقرب إلى الهوى فيخالفه» (١) فلا عجب إذن أن تنتهي حياة هذا العظيم بالشهادة ، بينما يموت ابن العاص على فراش الذنب والرذيلة ، لأنّ ابن العاص كان يخشى من شهرة العرب ـ حسب قول ابن قتيبة ـ أكثر من خوفه من الله ، وكان يبحث عن الرئاسة قبل سعيه لرضا ربّه ، إنّ تلك الصفات الرذيلة التي تكرّست في نفسه عبر عشرات
__________________
(١) نهج البلاغة / ص ٥٢٦ حكمة ٢٨٩