وبهذين الدليلين نهتدي إلى أنّ الرسول ليس بكاهن لأنّ الكاهن هو الذي يتنبّأ بالمستقبل دون أن يستثير العقل ، فتراه يصيب مرة ويخطئ مرات ، بينما لا نجد ولا خطأ واحدا في آيات الله ، وليس بمجنون لأنّ ما يصدر عن المجنون لا يلتقي مع العقل ، بينما تلتقي الرسالة معه بكلّ مفرداته دون استثناء ، وهو يعتمد خطّة واضحة في تحرّكه هي رسالته ، وليس بمجنون ـ حاشا لله ـ لأنّه ينبعث عن منطلقات إيمانية وعقلية ، وحسابات علميّة بالغة الدقة نافذة الحكمة.
كما يتميّز النبي بالشجاعة والتوكّل والثقة ، بينما المجنون لا يعتمد على شيء ، وليس الرسول بشاعر لأنّه يستثير العقل ، بينما يعتمد الشاعر على إثارة مشاعر الإنسان ، وأداته الخيال والمبالغة ، وأخيرا ليس بساحر لأنّ الساحر إنّما يلعب بخيال البشر ، ويسحر عيونهم ، ولا يفلح الساحر حيث أتى ، فهل رأيت ساحرا يقود أمّة أو يصنع تاريخا أو حتى يجمع ثروة طائلة أو يكتسب جاها عريضا؟ كلّا .. لأنّ الساحر لا يعيش حقائق الحياة حتى يسخّرها لمصلحته أو لقضيّته بل يتقلّب في سحره مع التمنّيات والظنون ، هذا أولا ، وثانيا تلتقي التهم الموجهة إلى النبي (ص) في كون المذكورين يعتمدون على قوى ليست مشروعة في نظر العرب أنفسهم ، فالكاهن يعتمد على اتصاله بالشياطين أو على مجرّد الحدس ، والمجنون هو الذي سحرته الجن فهي توحي له بتصرّفاته وأقواله ، والذي اعترته الآلهة بسوء كما قالوا من قبل لهود (ع) : «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» والشاعر هو الذي يحس بما لا يحس به الآخرون ، ويتلقّى الإلهام من الآلهة أو قوى أخرى كالجن ، والساحر هو الذي يستغني بالشياطين والعفاريت أو يسخّرهما ، أمّا الرسول (ص) فهو يتصل عبر الوحي بالله خالق الخلق ويعتمد عليه.
والقرآن إنّما يثبت هذه التهم ليعكس للرساليين عبر التاريخ طبيعة المسيرة التي ينتمون إليها من جانب ، ومن جانب آخر لبيان اعتراف الأعداء بجوانب من