عقولهم تهدي إلى صحة ما جاء به ، ولكنّهم لا يريدون إلزام أنفسهم بالمسؤولية ، لذلك تراهم يبحثون عن تبرير لعدم إيمانهم ، فقالوا : نحن نؤمن بعظمة الرسول وبعظمة ما جاء به ولكنّه من عبقريته ، ولسنا ملزمين باتباع ما تفتقت عنه عبقريّات البشر ، إنّما نحن ملزمون باتباع وحي الله وحسب ، وهذا هو منهج المستشرقين وكثير من المسيحيين في تقييم الإسلام والرسول الأعظم (ص).
(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ)
[٣٤] ويتحدّاهم القرآن بأنّه إذا كان القرآن من عبقرية الرسول فهو بشر مثلهم فهل يستطيعون صناعة كلام يشبه القرآن؟
(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ)
وتنكير كلمة «بِحَدِيثٍ» يدل على التبعيض ، فالتحدي إذن واقع على جزء من القرآن كالسورة أو الآية ، وتبقى هذه المعجزة الالهية الخالدة تتحدّى ضلال البشر عبر الزمن وفي كلّ جيل من الانس والجن ، يقول تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١)
[٣٥ ـ ٣٦] ومن الحديث المنطلق من واقع التشريع ينتقل السياق إلى الحديث من واقع الخلق ، فبعد أن أثبت بأنّ الرسالة ليست من صنيع البشر فلا هي كهانة ولا جنون ولا شعر ولا مخالفة للعقل ، وأنّ الدليل على كونها من الله عدم قدرة البشر على المجيء ولو بحديث واحد يشبهها ، نجد السياق هنا ينعطف لاثبات وجود الخالق عزّ وجل عبر تساؤلات ثلاث :
الأولى : أن يكونوا (الكفّار وعموم الخلق) قد خلقوا من غير خالق.
__________________
(١) الإسراء / ٨٨.