إنّ العقل المحض لا يخطئ أبدا ، ولذلك اعتبره الإسلام رسولا باطنا كما أنّ الأنبياء كانوا رسلا ظاهرين ، وحجة خفيّة كما الرسالات حجة ظاهرة.
(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)
ومن عمق الأدب القرآني وبلاغته أنّه لم يكتف بكلمة «وَحْيٌ» بل أضاف إليها كلمة «يُوحى» الفعل المبني للمجهول ، وذلك لأنّ الوحي قد يكون من فعل نفس الإنسان ، أمّا إذا بني للفاعل المجهول فإنّه يكون من طرف آخر ، والآية التالية تبيّن الموحي وهو الله شديد القوى ، نفيا لاحتمال أن يكون الرسول يتلقّى رسالته من قوى يتصل بها كالجن أو بعض الكهنة ، كما ادّعى عليه الجاهلون «وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» (١) ، كلّا .. إنّه يتلقّى رسالته عبر الوحي من الله ، وهذا الاتصال هو الذي يمدّه بالعصمة ، وحديث عصمة الرسول حديث طويل بحثه الدارسون ، وقد اختلفوا فيه كثيرا ، وأنا أترك الخوض في هذا الموضوع بالصورة التي بيّنها الكثير ، وأقتصر هنا على الحديث عنه من زاوية هامّة جدا ، وهي دراسة حياة الرسول (ص) ، لأنّ ذلك كما اعتقد سوف يكشف لنا شخصيته الفذّة ، وكيف أنّها لم تتأثّر بأيّ عامل هوى ، إنّما كانت دائما وأبدا صنيعة العقل والوحي.
لقد عاش (ص) في مكّة المكرّمة ـ قبل أن يظهره الله على المشركين فيها ـ تلاحقه عصابات الضلالة والبغي من قريش ، يحاولون أن يخدعوه عن دينه ، ويصرفوه عن رسالته ، بالإرهاب تارة وبالترغيب أخرى ، حتى بلغ الأمر بهم أن عرضوا عليه السلطة المطلقة عليهم وعلى أموالهم ، ولكنّه لم يخش إرهابهم ، ولم تحرّفه عروضهم المغرية ، إنّما تسامى على ذلك كلّه ، وأجابهم : «والله لو وضعتم الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه» ،
__________________
(١) الدخان / ١٤