واضطر من شدّة ضغوطهم وأذاهم إلى الهجرة عن مكة ، وكانت القبائل جميعها ترفض إيواءه عداوة له أو خوفا من قريش ، وسار نحو الطائف لعلّه يجد مفزعا فيها ، ولكنّه اصطدم بحقدهم الدفين ضدّه وضدّ رسالته ، حيث طردوه وأدموا ساقيه الشريفتين بالحجارة ، لكنّه مع ذلك كان يتحدّى الواقع المر ، ويسمو بروحه الطاهرة إلى آفاق الإيمان بالله ، فقد جاء في الخبر أنّه رفع يديه إلى السماء وقال : «اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون ، إلهي إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي».
وحينما هاجر إلى المدينة المنوّرة انطلق منها يقهر القوى العسكرية المضادة ، فحطّم كبرياء قريش ، ودمّر حصون اليهود من أعداء الرسالة وغيرهم ، وإلى حين رفعه الله إليه كان قد جهّز جيشا ليقاتل الروم القوة العظمى يومذاك ، وبين هذا وذاك بنى أمّة وحضارة لا زالت البشرية ولن تزال كلّما تقدّم بها الزمن والتطوّر تجد نفسها دون عظمتها. وهو مع ذلك لم تتغيّر أخلاقه ولا سيرته في العيش ، إنّما بقي وهو الحاكم العظيم يربط حجر المجاعة على بطنه ، ويتواضع للصغير والكبير ، أترى من هذه حياته ، ومن جعله الله أسوة مطلقة وصفها بالحسن إلّا أن يكون معصوما؟ ثم أليست العصمة أن لا يتأثّر الإنسان بالعوامل السلبية ، ولا يخرج عن خطّه ولا قيد شعره؟ بلى. إذن فلندرس حياة الرسول الأعظم (ص) هل نجد فيها ولو كلمة أو تصرّفا يخالف الحق؟
إنّ من السهل على العاقل أن يميّز الذي ينطق عن الهوى عمّن ينطق عن العقل ، فالذي ينطق عن الهوى لا يصدق دائما ، ولا يكون حديثه موافقا للعقل ، إنّما يكون تعبيرا عن شهوات صاحبه ، ومتناقضا متقلّبا حسب الظروف والمصالح.
ثم لننظر إلى الرسالة التي جاء بها النبي هل تخالف العقل والحق؟ وهل فيها شيء من التناقض؟ كلّا .. إذن فهي معصومة ، ومن عند الله ، (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ