ولقد خالطهم أمر عظيم! لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون. إذا زكّي أحد منهم خاف مما يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي منّي بنفسي! اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني أفضل مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون.
فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين ، وحزما في لين ، وأيمانا في يقين ، وحرصا في علم ، وعلما في حلم ، وقصدا في غنى ، وخشوعا في عبادة ، وتجمّلا في فاقة ، وصبرا في شدة ، وطلبا في حلال ، ونشاطا في هدى ، وتحرجا عن طمع ، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل ، ويمسي وهمه الشكر ، ويصبح وهمه الذكر ، ويبيت حذرا ، ويصبح فرحا ، حذرا لما حذّر من الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة ، ان استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب ، قرة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى. يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل. تراه قريبا أمله ، قليلا زلله ، خاشعا قلبه ، قانعة نفسه ، منزورا أكله ، سهلا أمره ، حريزا دينه ، ميّتة شهوته ، مكظوما غيظه. الخير منه مأمول ، والشر منه مأمون. ان كان في الغافلين كتب في الذاكرين ، وان كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه ، ويصل من قطعه. بعيدا فحشه ، ليّنا قوله ، غائبا منكره ، حاضرا معروفه ، مقبلا خيره ، مدبرا شره ، في الزلازل وقور ، وفي المكاره صبور ، وفي الرخاء شكور. لا يحيف على من يبغض ، ولا ينسى ما ذكّر ، ولا ينابز بالألقاب ، ولا يضار بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، ولا يدخل في الباطل ، ولا يخرج من الحق. ان صمت لم يغمّه صمته ، وان ضحك لم يعل صوته ، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له. نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة. أتعب نفسه لآخرته ، وأراح الناس من نفسه بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة ، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده بكبر وعظمة ،