العزّة جبّار السموات والأرض!!
ثم إنّه تعالى جعل ذلك الماء المهين في رحم الأم يحفظه وينشأ فيه ناميا صفة بعد صفة ومرحلة بعد الأخرى ، تحوطه وترعاه يد الغيب بما يعجز الإنسان نفسه عن إحصائه من السنن والقوانين المحكمة التي تثبته في الرحم ، وتمكّنه من العيش والنموّ فيه ، دون أن يكون للأبوين شأن في ذلك الحمل.
(فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ)
في التبيان : القرار : المكان الذي يمكن أن يطول مكث الشيء فيه ، ومنه قولهم : قرّ في المكان إذا ثبت على طول المكث فيه (١) واستقر. وغضّ أكثر المفسرين الطرف عن المكين ، بينما ذكر صاحب المنجد أنّه المتمكّن : والمكين ذو المكانة ، واستمكن استولى ، وتمكّن من الشيء قدر عليه (٢) ، ووجدت في الميزان هذا النص : والمكين : المتمكّن ، وصفت به الرحم لتمكّنها في حفظ النطفة من الضيعة والفساد ، أو لكون النطفة مستقرة متمكّنة فيها ، والمعنى : ثم جعلنا الإنسان نطفة في مستقرّ متمكّن وهي الرحم (٣). وقوله تعالى : «فجعلنا» تأكيد على الفعل الإلهي في الأمر إذ هو بعيد عن كلّ فاعل ومريد سواه سبحانه ، وذلك ما يؤكّده الإمام علي (ع) في واحدة من خطبه التي تطرّق فيها إلى هذا الأمر ، قال : «أيّها المخلوق السويّ ، والمنشأ المرعي في ظلمات الأرحام ، ومضاعفات الأستار ، بدئت من سلالة من طين ، ووضعت «فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ» ، وأجل مقسوم ، تمور في بطن أمّك جنينا لا تحير دعاء ، ولا تسمع نداء ، ثم أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك ،
__________________
(١) التبيان / ج ١٠ ص ٢٢٨.
(٢) المنجد / مادة مكن.
(٣) الميزان / ج ١٥ ص ٢٠.