الرأي الأول : السبح بمعنى : المهام والعمل ، يقال : سبح القوم : تقلّبوا وانتشروا في الأرض (١) ، فكأنّ القرآن يريد القول لنا بأنّ للمؤمن مسئوليتين : إحداهما بالنهار على عشرات المهام والأمور ، والأخرى بالليل تتحدد بقيامه ، ومهما كانت المسؤولية في النهار كبيرة طلب علم ، أو جهاد في سبيل الله ، أو سعي للرزق الحلال) فإنّه من الخطأ استعاضة مسئولية الليل بالنهار ، لأنّ العالم لو لم يخلص لكان ضرر العلم عليه وعلى الناس أكبر من نفعه ، والذي يجعل العلم مفيدا ، والعالم ملتزما برسالته في الحياة ، فلا يزيّف الحقائق ، ولا يبيع نفسه وعلمه على أيّة حكومة وطاغية ومترف ، هو الإيمان الذي يستلهمه من قيام الليل.
إنّ حاجة المؤمن لقيام الليل في أيّ خندق كان هي حاجة ملحّة وأكيدة ، لأنّ سبحه الطويل بالنهار جسد لا بد له من عقل وروح لا يجدهما إلّا في الاتصال بالله وإتباع وحيه. وإنّه لخطأ فظيع أن يقبل الإنسان على سبح النهار الطويل ويخوض لججه من دون إعداد كاف ، وإنّ الإمام عليّا (ع) ليؤكد بأنّ ما يصير إليه المتقون من الفضيلة بالنهار إنّما هي ثمرة قيامهم بالليل ، وذلك حينما قال وقد وصف شأنهم بالليل كما سبق : «وأمّا النّهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف يري القداح ، ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول : لقد خولطوا ، ولقد خالطهم أمر عظيم! لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متّهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، إذا زكّي أحد منهم خاف ممّا يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي من نفسي. اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني أفضل مما يظنّون ، واغفر لي ما لا يعلمون» (٢).
الرأي الثاني : السبح بمعنى الفراغ والفرصة ، قال الجبائي : إن فاتك شيء بالليل
__________________
(١) المنجد : مادة سبح.
(٢) نهج البلاغة خ ١٩٣ ص ٣٠٤.