أحدهما : الآيات والحجج الهادية إليه ، فمن آثار الحكمة والعلم والنظام المتجلية في الكون يهتدون إلى الإيمان بربهم ، ومن شواهد سنّة الجزاء في التاريخ والواقع يؤمنون بالجزاء الأعظم في الآخرة ، فهم لا ينتظرون أن تلامس جلودهم النار ، وتبصر أعينهم الملائكة ، ويقعون في قبضة الموت حتى يؤمنوا بكلّ ذلك ، إنّما يكتفون بظهور الآيات والحجج .. وهذه من أهمّ الخصائص التي تميّز العاقل عمّن سواه.
الثاني : إيمانهم بالله عزّ وجلّ كما وصف نفسه وتجلّى في كتابه وخلقه بأسمائه الحسنى ، فهم يؤمنون بالله القادر ، القاهر ، العليم ، الرحمن الرحيم و.. و.. إيمانا قائما على اليقين والمعرفة. ومتى ما بلغ الإنسان هذه الغاية صار مسلما بكلّ الحقائق الغيبية ، فلا يشك في الجنة والنار وما فيهما من النعيم والعذاب ، لأنّ الله الذي وعدنا بهما مطلق القدرة لا يعجزه شيء أبدا ، ولا يدخل في نفق الجدال والشك في عدد أصحاب النار وصفاتهم ، بل يسلّم بما يسمعه عن الله تسليما مطلقا. ولأنّ الكفّار والمشركين ومرضى القلوب لم يبلغوا هذه الغاية الأساسية صاروا إلى الشك في حقائق الغيب ، بل في حقائق الشهود أيضا ، فإذا بواحدهم يشك في أصل وجوده ، كما فعل السوفسطائيون!
إنّ المؤمن ليس مسلّما لله بفعله وقوله فقط ، بل هو مسلّم بعقله وعلمه أيضا ، ففي سلوكه ومواقفه لا يخالف الحق ، وفي داخله لا يثير أدنى تساؤل شكّي حول آيات ربه .. وهذه من أهم مرتكزات الإيمان والإسلام ، كما قال الله : «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (١) .. بلى. قد لا ندرك خلفيات بعض الأحكام الإلهية ، وقد لا نستوعب بصورة تامة بعض الحقائق ، ولكنّ ذلك ليس مبرّرا للكفر بها أبدا في منطق الإسلام ولا عند العقلاء ، وهذه قيمة علمية مسلّمة ومن صفات الراسخين في
__________________
(١) النساء ٦٥.