وكان أبو (١) حنيفة يرى أن شهيد المعركة إذا قتل جنبا فواجب على المسلمين غسله ، ويحتج بقصة حنظلة هذه ، وكان أصحابه وغيرهم ممن يذهب إلى أن لا يغسل الشهيد يرون أن الجنب وغيره سواء في ترك الغسل ، وإلى هذا نذهب ، والاحتجاج فيه مرسوم في كتبنا المؤلّفة في الفقه ، وأبو عامر أبو حنظلة كان يقال له الراهب ، فسمّاه النبي صلىاللهعليهوسلم الفاسق ، وكان ممن يسعى في بناء مسجد الضّرار الذي ذكره الله في كتابه وأهله ، يقول : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٢) إلى آخر القصة.
قال المعافى (٣) : وقد كان ابن الأنباري أملّ علينا خبر الأحوص ودير الغدير بغير هذا الإسناد وعلى مخالفة في مواضع من المتن ، فإنّي كنت قد رسمته فيما مضى من هذه المجالس ، ففي هذه الرواية زيادة ليست فيه ، وإن كان ما مضى فاتني ، آتي ما أحفظه من جملته لتحصيل بما أثبته منه ما فيه من زيادة من غير إطالة ، بذكر إسناده وأعيان ألفاظه ، وهو أن في الرواية التي وصفت أمرها.
أن يزيد بن الوليد كتب إلى الضّحّاك بن محمّد عامله على المدينة أن وجّه إليّ الأحوص بن محمّد الأنصاري الشاعر ومعبدا (٤) المغنّي.
فجهّزهما وأمرهما بالمسير ، فكانا ينزلان في طريقهما للأكل والشرب إلى أن أتيا البلقاء ، وهو منزل بين المدينة والشام ، فجلسا هنالك ، فأكلا ، وجلسا على نهرها ، فإذا هم بجارية قد خرجت من قصر هنالك ، ومعها جرّ فاستسقت (٥) فيه من الغدير ، ثم إنها ألقت الجرّ (٦) فانكسر فجلست تبكي ، فسألاها عن شأنها فقالت : لرجل بمكة من قريش ، فاشتراني صاحب هذا القصر ، وهو رجل من بني عامر من آل الوحيد ، بخمسين ألف درهم ، فنزلت من قبله ألطف منزلة ، ثم أنه تزوج ابنة عمّ له فهديت إليه ، فكانت تسيء إليّ وتكلفني أن أستقي في كل يوم من هذا الغدير بجرّ ، فشكوت ذلك إلى الرجل فقال : إنّما أنت أمة وهذه ابنة عمي ،
__________________
(١) الأصل : أبي.
(٢) سورة التوبة ، الآية : ١٠٧ وفي الجليس الصالح : بين المسلمين.
(٣) الجليس الصالح : قال القاضي.
(٤) عن الجليس الصالح وبالأصل : ومعبد.
(٥) الجليس الصالح : فاستقت.
(٦) الجرّ والجرار جمع جرّة وهي إناء من خزف كالفخار.