عن ضر شديد أصابه حتى أكرى نفسه مع الملاحين يمدّ في الحبل حتى انتهى إلى الموصل ، أو فعل ذلك لأمر خافه على نفسه ، فتنكر وأكرى نفسه في مدّاري السفن ، فخطب هذه امرأة ورغّبها في نفسه ، ووعدها ومناها ، وأخبرنا أنه نابه العذر (١) ، وأنه من أهل بيت شرف ، وأنها إن تزوجته سعدت به ، فلم يزل يمنّيها بهذا وشبهه حتى أجابته ، وأقام معها ، فكان يختلف في أسبابه ويجعل طريقه عليها بما رزقه الله.
ثم اشتملت على حمل ، فقال لها : أيتها المرأة هذه رقعة مختومة عندك لا تفتحيها حتى تضعي ما في بطنك ، فإن ولدت ابنا فسمّيه جعفرا وكنّيه أبا عبد الله ، وإن ولدت ابنة فسميها فلانة ، وأنا عبد الله بن محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب ، فاستري أمري ، فإنا قوم مطلوبون ، والسلطان إلينا سريع ، وودّعها عبد الله وخرج من عندها ، فقضي أنها ولدت ذكرا وأخرجت الرقعة فقرأت النسب [فسمّته](٢) جعفرا.
وضرب الدهر على ذلك ما تسمع له خبرا ، ونشأ الصبي مع أخواله وأهل بيت أمّه ، وكان كيّسا ذهنا لقنا (٣) واستخلف أبو العبّاس فقيل للمرأة : إن كنت صادقة في رقعتك وكان من كتبها صادقا فإن زوجك الخليفة أمير المؤمنين ، قالت : ما أدري صفوا لي صفة هذا الخليفة ، قالوا : غلام حين أبقل (٤) وجهه قالت : ليس هو هو ، فقيل : فاستري إذا أمرك.
ولم يلبث أبو العبّاس أن مات واستحق عندها اليأس ، وأقبل ابنها على الأدب فتأدب وظرف فكتب ونزعت به همته إلى بغداد ، فدخل ديوان أبي (٥) أيوب كاتب المنصور ، وانقطع إلى بعض أهله ، فأتى عليه زمان يتقوّت الكتب ، ويتزيد في أدبه وفهمه وخطه ، حتى بلغ أن صار يكتب بين يدي أبي (٦) أيوب إلى أن تهيّأ أن خرج خادم يوما إلى الديوان يطلب كاتبا يكتب بين يدي المنصور ، فقال أبو أيوب للغلام : خذ دواتك وقم واكتب بين يدي أمير المؤمنين ، فدخل الغلام فكتب وكانت تتهيّأ من أبي جعفر إليه النظرة بعد النظرة ، فتأمّله وألقيت عليه محبّته واستجاد خطه واسترشق فهمه ، فلبث زمانا لا يزال الخادم قد خرج فيقول : يا غلام خذ دواتك وقم واكتب بين يدي أمير المؤمنين ، واستراح أبو أيوب إلى مكانه ، ورأى أنه قد حمل
__________________
(١) كذا بالأصل ، وفي الجليس الصالح : القدر.
(٢) الزيادة عن الجليس الصالح.
(٣) اللقن : العاقل الذكي.
(٤) أي أول ما نبتت لحيته ، وفي الجليس الصالح : اتصل وجهه.
(٥) الأصل : «ابن» والصواب ما أثبت ، مرّ التعريف به.
(٦) الأصل : «ابن» والصواب ما أثبت ، مرّ التعريف به.