ترى ما قد صنع بي؟ قال : قلت : نعم ، قال : فو الله لو أنّ الله صبّ عليّ السماء نارا ، فأحرقتني ، وأمر الجبال فدمّرتني ، وأمر البحار فغرّقتني ، وأمر الأرض فخسفت بي ما ازددت له إلّا حبا ، وما ازددت له إلّا شكرا ، وإنّ لي إليك حاجة ، فتى كان لي يتعاهدني لوقت صلاتي ، ويطعمني عند إفطاري ، وقد فقدته منذ أمس ، انظر هل تحسه لي؟ قال : فقلت : إنّ في قضاء حاجة هذا العبد لقربة إلى الله ، قال : فخرجت في طلبه حتى إذا كنت بين كثبان من رمال ، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام ، فأكله ، قال : فقلت : إنّا لله وإنا إليه راجعون. كيف آتي هذا العبد الصالح ، أتيه من وجه رفق فأخبره الخبر لا يموت ، قال : فأتيته ، فسلّمت عليه ، فردّ عليّ السلام ، فقلت له : إنّي سائلك عن شيخ أتخبرني ، قال : إن كان عندي من شيء أخبرتك ، قلت : أنت أكرم على الله منزلة أم أيوب؟ قال : بل أيوب أكرم على الله مني وأعظم عنده منزلة مني ، قلت : أليس ابتلاه الله فصبر حتى استوحش منه من كان يأنس به ، وصار غرضا لمارّ الطريق؟ قال : بلى ، فقلت : إنّ ابنك الذي أخبرتني من قصته ما أخبرتني ، إنّي خرجت في طلبه حتى إذا كنت بين كثبان من رمال إذا بسبع قد افترس الغلام ، فأكله ، فقال : الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا ، قال : ثم شهق شهقة فمات ، قال : فقلت : إنّا لله وإنا إليه راجعون ، من يعينني على غسله وكفنه وحفر قبره ودفنه؟ قال : فبينا أنا كذلك إذا أنا بركب قد بعثوا رواحلهم يريدون الرباط ، قال : فأشرت إليهم فأقبلوا إليّ ، فقالوا : ما أنت وهذا؟ فأخبرتهم الذي كان من أمره ، قال : فثنوا أرجلهم فغسلناه بماء البحر ، وكفّناه بأثواب كانت معهم ، ووليت الصلاة عليه من بينهم ، ودفنّاه في مظلته ، ومضى القوم إلى رباطهم (١) ، قال : وبتّ في مظلته تلك الليلة أنسا به. قال : فلما مضى من الليل مثل ما بقي إذا أنا بصاحبي في روضة خضراء ، عليه ثياب خضر قائم يتلو الوحي ، فقلت : ألست صاحبي؟ قال : بلى ، قلت : فما الذي صيرك إلى ما أرى؟ قال : إنّي وردت من (٢) الصابرين على درجة لم ينالوها إلّا بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء.
قال لي الأوزاعي : قال لي الحكيم : يا أبا عمرو ما تنكر من هذا الولي ، والاه وابتلاه فصبر ، وأعطاه فشكر ، والله لو أن ما خفت عليه أقطار الجبال ، وصمت عليه أصداف البحار ، وأتى عليه الليل والنهار أعطاه أدنى خلق من خلقه ما نقص ذلك من ملكه شيئا.
__________________
(١) بالأصل : أرباطهم ، والمثبت عن م ، وت ، ود.
(٢) كذا بالأصل ، وم ، وت ، ود ؛ وفي المختصر : مع الصابرين.