ويبكون ، وأحاطوا بالحجرة الشريفة كاشفين رءوسهم مقرّين بذنوبهم مبتهلين مستجيرين بنبيهم صلىاللهعليهوسلم. قال القطب : ولما عاين أمير المدينة ذلك أقلع عن المخالفة ، واعتبر ، ورجع عما كان عليه من المظالم وانزجر ، وأظهر التوبة والإنابة ، وأعتق جميع مماليكه ، وشرع في رد المظالم ، وعزم أهل المدينة على الإقلاع عن الإصرار وارتكاب الأوزار ، وفزعوا إلى التضرع والاستغفار ، وهبط أميرهم من القلعة مع قاضيهم الشريف سنان وأعيان البلد ، والتجئوا إلى الحجرة الشريفة ، وباتوا بالمسجد الشريف بأجمعهم حتى النساء والأطفال ؛ فصرف الله تعالى عنهم تلك النار العظيمة ذات الشمال ، ونجوا من الأوجال ، فسارت تلك النار من مخرجها وسالت ببحر عظيم من النار ، وأخذت في وادي أحيليين وأهل المدينة يشاهدونها من دورهم كأنها عندهم ، ومالت من مخرجها إلى جهة الشمال واستمرت مدة ثلاثة أشهر على ما ذكره المؤرخون.
مدة النار
وذكر القطب القسطلاني في كتاب أفرده لهذه النار ، وهو ممن أدركها ، لكنه كان بمكة فلم يشاهدها : أن ابتداءها يوم الجمعة السادس من شهر جمادى الآخرة ، وأنها دامت إلى يوم الأحد السابع والعشرين من رجب ، ثم خمدت ، فجملة ما أقامت اثنان وخمسون يوما ، لكنه ذكر بعد ذلك أنها أقامت منطفية أياما ، ثم ظهرت ، قال : وهي كذلك تسكن مرة وتظهر أخرى ؛ فهي لا يؤمن عودها ، وإن طفئ وقودها ، انتهى ؛ فكأن ما ذكره المؤرخون من المدة باعتبار انقطاعها بالكلية ، وطالت مدتها ليشتهر أمرها فينزجر بها عامة الخلق ويشهدوا من عظمها عنوان النار التي أنذرهم بها حبيب الحق.
قوة النار
وذكر القسطلاني عمن يثق به أن أمير المدينة أرسل عدة من الفرسان إلى هذه النار للإتيان بخبرها ، فلم تجسر الخيل على القرب منها ، فترجل أصحابها وقربوا منها ، فذكروا أنها ترمي بشرر كالقصر ، ولم يظفروا بجلية أمرها ، فجرد عزمه للإحاطة بخبرها ، فذكر أنه وصل منها إلى قدر غلوتين بالحجر ولم يستطع أن يجاوز موقفه من حرارة الأرض وأحجار كالمسامير تحتها نار سارية ومقابله ما يتصاعد من اللهب ، فعاين نارا كالجبال الراسيات ، والتلال المجتمعة السائرات ، تقذف بزبد الأحجار كالبحار المتلاطمة الأمواج ، وعقد لهيبها