ونقل رزين عن الشرقي أن أبا جبيلة لما فرغ من نصر أهل المدينة رجع إلى الشام ؛ فأقبل تبع الأخير ـ وهو كرب بن حسان بن أسعد الحميري ، والتبابعة كلهم من حمير ـ يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل ؛ فمر بالمدينة ، فخلف فيها ابنا له ومضى حتى قدم الشام ، ثم سار حتى قدم العراق ، فلما كان بالعراق قتل ابنه بالمدينة غيلة (١) فأقبل راجعا يريد تخريب المدينة ، فنزل بسفح أحد ، فاحتفر بئرا ثم أرسل إلى أشراف المدينة ، فلما جاءهم الرسول قال بعضهم : إنما أراد أن يملكنا على قومنا ، وقال أحيحة : والله ما دعاكم لخير ، وكان لأحيحة رئيّ من الجن فخرجوا وخرج أحيحة معه بقينة وخمر وخباء ، فضرب الخباء وجعل فيه القينة والخمر ، ثم دخل على تبع أول الناس. فتحدث معه ، ففطن بالشر ، ثم قال : إن أصحابي يصلونك إلى الظهر ، فاستأذن في الخروج إلى الخيمة ، فأذن له ، فشرب وجعلت القينة تغنيه بأبيات صنعها لها تقول :
لتبكني قينة ومزهرها |
|
وتبكني قهوة وشاربها |
وتبكني عصبة إذا اجتمعت |
|
لا يعلم الناس ما عواقبها |
وهو يقلّ من الشراب ، وجاء أصحابه قريبا من الليل ، فأمر لهم تبع بضيافة ، فلما كان في جوف الليل أرسل إليهم ليقتلهم ، ففطن أحيحة ، فقال للقينة : أنا سائر إلى أهلي ، فإذا طلبني الملك فقولي : هو نائم ، فإذا ألحوا فقولي : يقول لك : أما أحيحة فقد ذهب فاغدر بقينته أو دع ، وانطلق فتحصن في حصنه ، فحاصروه ثلاثا يقاتلهم بالنهار ، وإذا كان بالليل يرمي إليهم بتمر ويقول : هذا ضيافتكم. فأخبروا تبعا أنه في حصن حصين ، فأمرهم أن يحرقوا نخله ، واشتعلت الحرب بين تبع وأهل المدينة من اليهود والأوس والخزرج ، وتحصنوا في الآطام ، فخرج رجل من أصحاب تبع حتى جاء بني عدي بن النجار ، فدخل لهم حديقة ، فرقي على عذق منها. فأخذ يجده (٢) ، فنزل إليه صاحب العذق (٣) فقتله وجره إلى بئر وألقاه فيها ، وهو يقول :
جانا يجدّ نخيلنا |
|
وكان الجداد لمن قد أبر (٤) |
فزاد ذلك تبعا حنقا (٥) ، وجرد إلى بني النجار خيلا ، فقاتلهم بنو النجار ورئيسهم يومئذ عمرو بن طلحة أخو بني معاوية بن مالك بن النجار ، ورمى عسكر تبع حصون
__________________
(١) الغيلة : الغدر.
(٢) جدّ الشيء : قطعه.
(٣) العذق : كل غصن له شعب.
(٤) أبّر النخل : أصلحه.
(٥) حنق عليه : اشتد غيظه.