لبس لأمته يشبه النبي صلىاللهعليهوسلم فلما قتله ظن أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فرجع إلى قريش وقال : قد قتلت محمدا ، فازدادوا جرأة وصاح إبليس من العقبة : قتل محمد ، فلما سمع المسلمون ذلك وهم متفرقون كانت الهزيمة ، فلم يلو أحد على أحد (١).
والصواب أن السبب مخالفة الرماة للأمر ، وهذا مؤكد له ومتمم ، مع أن الأصل في ذلك ـ مع إرادة الله تعالى ـ ما اتفق ببدر من أخذ الفداء ، فقد أخرج الترمذي والنسائي عن علي أن جبريل هبط فقال : خيّرهم في أسارى بدر القتل أو الفداء على أن يقتل منهم من قابل مثلهم ، قالوا : الفداء ويقتل منا ، وقال الترمذي : حسن ، وذكر غيره له شواهد تقويه ، ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة ، وقتلوا سبعين ، وأسروا سبعين. وفيه أيضا أن المشركين أصابوا يوم أحد من المسلمين سبعين ، ولفظه من حديث البراء قال : لقينا المشركين يومئذ ، وأجلس النبي صلىاللهعليهوسلم جيشا من الرماة ، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال : لا تبرحوا ، فإن رأيتمونا ظهرنا عليهم (٢) فلا تبرحوا (٣) ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا ، فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن ، فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة ، فقال عبد الله : عهد إلي النبي صلىاللهعليهوسلم ألّا تبرحوا ، فأبوا ، فلما أبوا صرف الله وجوههم ، فأصيب سبعون قتيلا.
ووقع عند مسلم من طريق ابن عباس عن عمر في قصة بدر قال : فلما كان يوم أحد قتل منهم سبعون وفروا ، وكسرت رباعية النبي صلىاللهعليهوسلم وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) [آل عمران : ١٦٥] الآية ، والمراد بكسر الرباعية ـ وهي السن التي تلي الثنية والناب ـ أنها كسرت فذهب منها فلقة ، ولم تقلع من أصلها ، وقوله «وفروا» أي : بعضهم ، أو أطلق ذلك باعتبار تفرقهم ، والواقع أنهم صاروا ثلاث فرق : فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة ، فما رجعوا حتى انقضى القتال ، وهم قليل ، وهم الذين نزل فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [آل عمران : ١٥٥] وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلىاللهعليهوسلم قتل ، فصار غاية الواحد منهم أن يذب عن نفسه ، أو يستمر على نصرته في القتال إلى أن يقتل ، وهم أكثرهم ، وفرقة بقيت مع النبي صلىاللهعليهوسلم ثم تراجع إليهم القسم الثاني شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حي ، وما ورد من الاختلاف في العدد محمول على تعدد المواطن في القصة.
__________________
(١) لا يلو أحد على أحد : لا يقيم عليه ولا ينتظره.
(٢) ظهر على عدوه : غلبه.
(٣) برح مكانه : زال عنه وغادره.