وقد حجب الدَّمع طرفيَّ عن النظر فلمّا رقأت العبرة وانقطع النحيب فتحت بصري فإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه ، وتقوَّس منكباه ، وثفنت جبهته وراحتاه ، وهو يقول لاخر معه عند القبر : يا ابن أخي لقد نال عمّك شرفاً بما حمّله السيّدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم الّتي لم يحمل مثلها إلّا سلمان ، وقد أشرف عمّك على استكمال المدَّة وانقضاء العمر ، وليس يجد في أهل الولاية رجلاً يفضي إليه بسرِّه ، قلت : يا نفس لا يزال العناء والمشقّة ينالان منك باتعابي الخفّ والحافر (١) في طلب العلم ، وقد قرع سمعي من هذا الشيخ لفظ يدلُّ على علم جسيم وأثر عظيم ، فقلت : أيّها الشيخ ومن السيّدان؟ قال : النجمان المغيّبان في الثرى بسرِّ من رأى ، فقلت : إنّي اقسم بالموالاة وشرف محلّ هذين السيّدين من الامامة والوراثة إنّي خاطب علمهما ، وطالب آثارهما ، وباذل من نفسي الايمان المؤكّدة على حفظ أسرارهما ، قال : أن كنت صادقاً فيما تقول فأحضر ما صحبك من الاثار عن نقلة أخبارهم ، فلمّا فتّش الكتب وتصفّح الرِّوايات منها قال : صدقت أنا بشر بن سليمان النخّاس (٢) من ولد أبي أيّوب الانصاريّ أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد عليهماالسلام وجارهما بسر من رأى ، قلت : فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما قال : كان مولانا أبو الحسن علىُّ بن محمّد العسكري عليهماالسلام فقهني في أمر الرقيق فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلّا بإذنه ، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتّى كملت معرفتي فيه فأحسنت الفرق [ فيما ] بين الحلال والحرام.
فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسرِّ من رآى وقد مضى هويٌّ (٣) من اللّيل إذ قرع الباب قارع فعدوت مسرعاً فإذا أنا بكافور الخادم رسول مولانا أبي الحسن عليِّ بن محمّد عليهماالسلام يدعوني إليه فلبست ثيابي ودخلت عليه فرأيته يحدِّث ابنه أبا محمّد واخته حكيمة من وراء الستر ، فلمّا جلست قال : يا بشر إنّك من ولد الانصار وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف ، فأنتم ثقاتنا أهل البيت وإني مزكيّك ومشرِّفك بفضيلة
__________________
(١) كناية عن البعير والفرس.
(٢) مهمل.
(٣) يعني زماناً غير قليل