وبعد الاياس عزم على الانصراف حذراً على التلف لفناء الزَّاد والماء ، والخدم الّذين كانوا معنا ضجروا فأوجسوا التلف على أنفسهم (١) وألحوا على والدي بالخروج من الظلمات فقمت يوماً من الرَّحل لحاجتي فتباعدت من الرَّحل قدر رمية سهم فعثرت بنهر ماء أبيض اللّون ، عذب لذيذ ، لا بالصغير من الأنهار ولا بالكبير ، ويجري جرياناً ليناً فذنوت منه وغرفت منه بيدي غرفتين أو ثلاثة فوجدته عذباً بارداً لذيذاً ، فبادرت مسرعاً إلي الرَّحل وبشّرت الخدم بأنّي قد وجدت الماء ، فحملوا ما كان معنا من القرب والادوات لنملاها ، ولم أعلم أنَّ والدي في طلب ذلك النهر وكان سروري بوجود الماء ، لمّا كنّا عدمنا الماء وفنى ما كان معنا ، وكان والدي في ذلك الوقت غائباً عن الرحل مشغولا بالطلب فجهدنا وطفنا ساعة هويّة (٢) على أن نجد النهر ، فلم نهتدي إليه حتّى أنَّ الخدم كذَّبوني وقالوا لي : لم تصدق ، فلمّا انصرفت إلى الرَّحل وانصرف والدي أخبرته بالقصّة فقال لي : يا بنيَّ الّذي أخرجني إلى هذا المكان وتحمّل الخطر كان لذلك النهر ولم أرزق أنا وأنت رزقته وسوف يطول عمرك حتّى تملَّ الحياة ، ورحلنا منصرفين وعدنا إلى أو طاننا وبلدنا وعاش والدي بعد ذلك سُنيّات ثمَّ توفّي رضياللهعنه.
فلمّا بلغ سنّي قريباً من ثلاثين سنّة وكان ( قد ) اتصل بنا وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله ووفاة الخليفتين بعده خرجت حاجا فلحقت آخر أيّام عثمان فمال قلبي من بين جماعة أصحاب النبيِّ صلىاللهعليهوآله إلى عليِّ بن أبي طالب عليهالسلام فأقمت معه ، أخدمه وشهدت معه وقايع وفي وقعة صفّين أصابتني هذه الشجّة من دابّته ، فما زلت مقيماً معه إلى أن مضى لسبيله عليهالسلام ، فألحَّ عليَّ أولاده وحرمه أن اقيم عندهم فلم أقم وانصرفت إلى بلدي.
وخرجت أيّام بني مروان حاجّاً وانصرفت مع أهل بلدي إلى هذه الغاية ما خرجت في سفر إلّا ما كان [ إلي ] الملوك في بلاد المغرب يبلغهم خبري وطول عمري فيشخصوني إلى حضرتهم ليروني ويسألوني عن سبب طول عمري وعمّا شاهدت و
__________________
(١) في بعض النسخ « في أنفسهم » وفي بعضها « وخشوا على أنفسهم ».
(٢) أي زماناً طويلا.